رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيرك ٢٥ يناير


للمرة المائة أقول إننى لم أكن يومًا ضد الإطاحة بالرئيس الأسبق حسنى مبارك، الذى كان قد ترك الحكم ورفع فعليًا من الخدمة قبل ٢٥ يناير ٢٠١١ بسنوات، وترك الأمر لمن لا يصلح لحكم قرية صغيرة وليس حكم مصر كلها.
ولكن الرغبة فى خلع مبارك لم تَعن أبدًا لملايين المصريين، وأنا منهم، القبول بإسقاط مصر فى مستنقع الفوضى، الذى رسمه شياطين البيت الأبيض، بقيادة الرئيس الأمريكى باراك أوباما، ووزيرة خارجيته، هيلارى كلينتون، للمنطقة كلها مع أجهزة المخابرات الخارجية وعصابات حقوق الإنسان الدولية، وقد نجح هؤلاء الشياطين فى إسقاط العديد من الدول العربية بدرجات مختلفة فى الفوضى، وانظر حولك لترى ما حدث لسوريا وليبيا واليمن ولبنان.. والعراق أيضًا رغم أن المؤامرة بدأت به، قبل ثمانية أعوام من افتتاح سيرك الربيع العربى.
وإذا كان هناك من يتوهم كل عام، وقبل حلول ٢٥ يناير، بأنهم قادرون على إعادة تقديم فقرات السيرك مرة أخرى، فإن المصريين جميعًا، بإيمانهم بوطنهم، يؤكدون لهم أنهم واهمون، وأن المصرى- باعتباره مؤمنًا- لا يمكن أن يلدغ من نفس الجحر مرتين.
بعد تسع سنوات لا بد أن نعترف بأننا جميعًا- أو لنقل أغلبنا- قد وقعنا فى فخ الربيع العربى، عندما اعتقدنا أن رياح التغيير قد هبت على منطقتنا فجأة من أجل العيش والحرية والكرامة الإنسانية، لكن العقلاء هم من اكتشفوا أننا وقعنا فى سيرك الربيع العربى، الذى تم الإعداد له بعناية والإنفاق عليه بسخاء من أجل خلق شرق أوسط جديد، أو شرق أوسط ضعيف يتم فيه تقسيم المقسم وتجزئة المجزأ، لتتحول الساحة العربية إلى دويلات صغيرة ضعيفة تتصارع تحت شعارات طائفية أو عرقية أو حتى جهوية، ليسهل السيطرة عليها أكثر وأكثر من ناحية، وللتمهيد لقيام دولة إسرائيل الكبرى «المزعومة» التى تمتد من النيل إلى الفرات من ناحية أخرى.
الوحوش الكبار «أسود ونمور وأفيال» هم من خططوا لعروض وفقرات هذا السيرك، فيما تولت باقى الحيوانات الأليفة من جياد وقرود وأرانب وببغاوات تم تدريبها بعناية، لتنفيذ المهمة بحماس، وتحول بعض القرود إلى نشطاء يتفاعلون ويحملون الشعارات، وقامت دواب أخرى كالجياد والحمير بدفع القاطرة- وبحماس شديد- نحو هاوية الفوضى، فيما قام الببغاوات بترديد نفس الشعارات على مواقع التواصل، وفى الندوات ووسائل الإعلام. لم يفهم الذين ثاروا فى سوريا أن الذين مولوا ثورتهم، كان هدفهم الانتقام من بشار الأسد لأنه رفض تمرير أنبوب الغاز القادم من بلادهم إلى أوروبا، فاعتقدوا أنهم يستطيعون تغيير النظام بضخ عدة مليارات، وليأت بعده من يأت.. الدواعش أو الأتراك أو الشياطين الحمر، المهم أن يصدروا غازهم إلى أوروبا.
ولم يفهم الذين ثاروا فى اليمن أن الإيرانيين أو الفرس، الذين يحلمون منذ عقود طويلة بالسيطرة على بلدهم، هم الذين يمولون ثورتهم، وأنهم يحلمون باستعادة سيطرتهم على حكم اليمن السعيد، والتى بدأت على يد سيف بن ذى يزن فى العام ٥٧٠ ميلادية.. وأنهم فى سبيل هذا الأمل مولوا فصيلًا شيعيًا هو الحوثيون، واشتروا بأموالهم فرقًا من جنود الجيش اليمنى، فأدخلوا اليمن السعيد إلى دائرة الشقاء الأبدى.. وهكذا أصبح الأمر فى العراق ولبنان وليبيا.
كل الشعارات كانت براقة فى سيرك الربيع العربى، تسحر أصحاب القلوب النظيفة والنوايا الطيبة، العيش والحرية والكرامة الإنسانية.. ومن يكره هذه الشعارات؟، ولكن الحقيقة كانت شيئًا آخر، والحقيقة لم يعرفها إلا وحوش السيرك، الذين أقاموا معسكرات التدريب فى صربيا وواشنطن، وأكاديمية التغيير بالدوحة، والتى ألحقوا القرود والجياد والببغاوات والأرانب بها، فدربوها وغسلوا أدمغتها وأنفقوا عليها بسخاء، وأوهموها بأنهم سيجعلونهم زعماء «الحلبة» قريبًا، ومع أول إشارة تغيير.
من الفخر أن تثور من أجل كرامتك، ومن أجل بلدك وحريته وازدهاره، لكنه عار عليك أن تثور من أجل إرادة الذين يحلمون بتحطيم بلدك وكسره والقضاء على ماضيه وحاضره ومستقبله، جميل أن تثور لتصبح حرًا بكل معانى الكلمة، لكنها خيبة كبرى أن تثور لتصبح عبدًا لأسياد العالم الذين لا يهتمون بك، قدر اهتمامهم بالسيطرة على موارد بلادك وعلى كل مقدراتها.
إذا كنت قد شاركت فى جريمة الربيع العربى دون أن تدرك أبعادها، فهذا خطأ كبير فى حق نفسك وحق بلدك، أما إذا كنت تدرك أنك تشارك فى هدم بلدك لصالح إرادات دول كبرى تحكم العالم، وتسيره وفقًا لمصالحها وإراداتها فتلك جريمة لا تغتفر.
لم نر فى الربيع العربى خيرًا ولم نر منه ورودًا ولا رياحين، لكننا لمسنا فيه أشواكًا ودماءً وتنسمنا فيه رائحة الموت والخراب، وقسوة تدمير المدن وتهجير الملايين، فكيف يمكن أن نعتبره ربيعًا، وكيف يمكن أن نسير وراء الداعين له والمروجين لشعاراته؟!
المليارات الكثيرة التى أنفقت لتدمير دول الربيع العربى كانت تكفى لأن تحوله إلى جنان خضر، لكن الذين أنفقوها كانوا يدركون أنهم سيستردونها، عندما تصبح ثروات المنطقة فى أيديهم ورهن إشارتهم.
فى الربيع العربى «الأسود»، مارس وحوش السيرك كل الألاعيب المشروعة وغير المشروعة للسيطرة على المنطقة، فرأيناهم يعطون عصا القيادة لدراويش الإسلام السياسى، ودراويش دولة الخلافة ليسيروا فى ذيل العثمانى الطامع فى خيرات بلادهم أردوغان، ليقدمهم قربانًا لقيادة البيت الأبيض.
لقد آلمنى كثيرًا، وأنا أستمع فى جلسات حوار المنامة الاستراتيجى منذ عدة سنوات، إلى الجنرال الأمريكى ديفيد بترايوس، قائد القيادة المركزية الأمريكية سابقًا فى الشرق الأوسط، مدير وكالة المخابرات الأمريكية بعد ذلك، وهو يتحدث عن عمله، قائلًا: إنه يشعر بأنه أشبه مدير حلبة سيرك ممتدة على مساحة أكثر من ثلاثين دولة من أفغانستان إلى المغرب!! هكذا كانوا ينظرون إلينا.. وما زالوا!!!
ليس عيبًا أن نقع فى الفخ «البراق» مرة، لكن العيب والعار أن نقع فيه مرات ومرات، بعد أن ندرك أنه كان لها لاصطيادنا والنيل منا كفرائس، فإذا كانت الحدأة أو «الحداية» لا ترمى بالكتاكيت، فإن الغرب الذى يستعمرنا وينهب ثرواتنا منذ قرون، لا يمكن أن يهتم بعيشنا وحريتنا أو بكرامتنا الإنسانية.