رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد صالح البحر: القراءة فتحت عيني وسحر الحكاية حملني على جناحيه (حوار)

محمد صالح
محمد صالح

يرى الكاتب محمد صالح البحر أن السياق الإبداعي العالمي يشير باتجاه الرواية، ليس فقط لاتساع رؤيتها، أو قدرتها على حمل الإنسان بالعالم الذي يموج فيه، بل من أجل السينما والدراما والمسرح. لكنه في الوقت نفسه يؤكد على أن القصة القصيرة هي فن الإنسان الفرد في محاولاته المستميتة للعثور على ذاته. صالح البحر صدرت له المجموعات القصصية: أزمنة الآخرين٬ ثلاث خطوات باتجاه السماء٬ قسوة الآلهة. بجانب روايات: نصف مسافة٬ موت وردة٬ حقيبة الرسول٬ ومؤخرا روايته الأحدث "حتى يجد الأسود من يحبه" الصادرة عن دار روافد ويشارك بها "بحر" بمعرض القاهرة للكتاب. التقته الـ"الدستور" للحديث عن فن القصة القصيرة وكيف أن الكتابة هي التي اختارته يحدثنا صاحب قسوة الآلهة.


• منْ كتاب القصة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب هذا الفن الأدبي؟
- القراءة هي الباب الكبير الذي فتح عينيّ على اتساع العالم من حولي، كنت ابن قرية صغيرة في سبعينيات القرن الماضي، تقف حدود عالمي عند شاطئ النيل غربا، وأطراف الجبل الشرقي، حتى القطار الذي لا يكف عن الرواح والمجيء إلى جوارنا لم أكن أعرف إلى أين يذهب، أو من أين يجيء، حتى جاءت القراءة وأخبرتني أن العالم أكبر مما أنا فيه بكثير، فرميت بنفسي فيها، لم أترك أحدا من جيل الرواد لم أقرأ له، طه حسين، العقاد، هيكل، توفيق الحكيم، يحيى حقي، محفوظ، وكانت كتبهم تتوفر بكثرة في مكتبة المدرسة، وتتوفر بعناية في مكتبة البيت، لكن منْ شكل وعيي الفني وأحببت أن أكون معهم، هما يوسف إدريس ويحيى الطاهر عبد الله.

• ما الذي لفتك إلى الاهتمام بالقصة القصيرة، وكيف بدأت تجاربك الأولى فيها؟
- لم ألتفت إلى القصة القصيرة، بل إلى الحكاية، لم أكن أعرف الفرق بينها وبين الرواية، ولم يعلمني أحد، لذلك حملني سحر الحكاية على جناحيه، وكانت رحلاته تطول مرة، وتقصر مرة، حتى سمعت الصوت الذي صرخ بعزم قوته داخلي، وأخبرني بقدرتي على أن أكون ساحرا أيضا، هكذا قذفني السحر إلى الفضول، فاندفع القلم الذي كان يجيد كتابة موضوعات التعبير ليتقدم خطوة إلى الأمام، ويبدأ في نسج الحكايات.

• هل قرأت شيئا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته؟
- بكل تأكيد، خصوصا بعدما استهوتني الكتابة، وبدأت تطيعني مرة وتعصاني مرة، فكان لابد من البحث عن دليل، قراءة النقد مهمة للكاتب خصوصا في غياب المعلمين، وعدم وجود جيل سابق في المكان، لقد نشأت في قنا بلا ظل، تحت سماء مكشوفة وخالية من السحب، وكنت كلما توغلت في الكتابة كلما توغلت في قراءة النقد الكاشف لطرقها، وعندما عرفت طريقي إلى الحياة الثقافية كان معظم أصدقائي من النقاد، أذكر أن "تطور فن القصة في مصر" لسيد حامد النساج، و"في نظرية الرواية" لعبد الملك مرتاض و"محتوى الشكل" لسيد البحراوي، كانوا من أهم الكتب النقدية بالنسبة لي.




• ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي؟ هل يتعلق الأمر بحالتك النفسية، أم بطبيعة الموضوع الذي تعالجه، أم أن إمكانية النشر هي التي توجهك إلى هذا الاختيار؟
- منذ بدأت نسج الحكايات وأنا أؤمن أن الكتابة هي التي تختارني، الكاتب الذي يذهب إلى الكتابة يعود دائما بلا صيد، القصدية تفسد الفن، والحرفية ليست إبداعا، لكن طبيعة الموضوع أو الفكرة هي التي تختار إطار القصة القصيرة لتسكن فيه، تلك الحالات الإنسانية المكثفة، المحاصرة في المكان والمُخْتطَفَة من الزمن، يليق بها أن تعيش وحيدة، وأن تتوحد بعزلتها، فسردها لن يطول.

• ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلى توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب؟ ومن قارئك؟
- لا غاية من وراء الكتابة، سوى أن أعبر عن ذاتي محاولا معرفتها، أن أفتش عنها محاولا الوصول إليها، وأن أنير لها الطريق كي تتحسس وجودها ومصيرها في هذا العالم الذي صار عبثيا إلى أقصى مدى، لذلك أتحرى كل شيء فيها مخافة أن يقرأني أحد ما في مكان ما، فيضل الطريق، لا أتمثل قارئي وأنا أكتب، لكنني أتمثل شخصياتي حد التلبس والتماهي، وأتمنى أن يكون قارئي جيدا كي لا يكرهني.

• ما مدى الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدى القصص القصيرة؟ وهل تواجه أحيانا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ ومثل ماذا؟
- من الزمن الذي تستغرقه كتابة عدد قليل من الصفحات، يومين أو ثلاثة على أقصى تقدير، فأنا لا أبدأ الكتابة إلا وقد اختمر كل شيء بداخلي تقريبا، ومع ذلك أظل أهرب حتى تستدعيني وتجبرني على الجلوس، لذلك لا أذكر أنني واجهت صعوبات ما أثناء كتابة القصة القصيرة، الصعوبة تكمن في عملية مراجعة الكتابة، اللغة، الحذف والإضافة، الوصول إلى العمق بمنتهى البساطة.

• هل استطعت من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة؟ مثل ماذا؟
- الحرفية ضد الإبداع، هكذا أؤمن، نعم قد تنتج نصوصا جيدة، تحكمها صنعة الممارسة، لكنها ستكون خالية من "لطشة الإبداع" وعفويته ودهشته غير المتوقعة، الإبداع قدرة على التخيل في فضاءات بلا جاذبية، وكل ما يمكن أن يختمر في عقل الكاتب قبل الانطلاق في ربوعها اللامحدودة، هو تمهيد الأرض لتحديد نقطة الانطلاق.

• هل تهتم في كل قصة قصيرة تكتبها بأن يكون لها مغزى بالنسبة إلى الأوضاع الاجتماعية المعاصرة؟
- القصة القصيرة هي فن الإنسان الفرد في محاولاته المستميتة للعثور على ذاته، ومعرفة حقيقتها في الوجود، ومن الطبيعي أن يتماس ذلك البحث الدؤوب المدقق مع المحيط الاجتماعي الذي يعيش فيه، بكل ما يحمله من قيم ثقافية وأخلاقية ودينية وسياسية، وأن يُحدث ذلك التماس الكثير من الشرر المتطاير، والممتلك لقدرته على إحداث الحرائق، لكن القصة القصيرة لا ترفع عينيها أبدا عن الإنسان، يظل دائما هو المحور الذي تنعكس عليه كل هذه الظلال، التي تشكل أزمته بمحاولاتها الحادة لطمس وجوده، وتشكل قدرته على الإبداع للحفاظ على هذا الوجود، والعثور على مصير يليق بإنسانيته.


• كيف يكون مدخلك إلى القصة القصيرة؟ وهل يتجه اهتمامك إلى الحدث أم إلى الشخصية؟
- المدخل هو الفكرة، وقدرتها على جلب المتخيل القابل للتصديق، واهتمامي ينصب دائما على الشخصية، ليس فقط لأنها منْ تحمل الفكرة، بل لأنها منْ تصنع الحدث أيضا، وتخلق المكان والزمان، فلا وجود لأي شيء بعيدا عن الإنسان.

• هل تعين الزمان والمكان للحدث (أو الأحداث) التي تتضمنها القصة القصيرة، أم تتركها بلا تعيين؟
- بحسب موضوع القصة، فطبيعة الموضوع هي التي تحدد كل شيء، لكنني أعتقد كقاعدة عامة أن القصة القصيرة لا تهتم بتعيين أي من عناصرها، وكلما كانت الحالة القصصية مطلقة، كلما كانت أكثر عمقا، وانفتاحا على تعدد الدلالات.

• هل ترى فيما أنجزت حتى الآن من قصص قصيرة أنه يمثل مراحل تطور متعاقبة؟ وإن كان فكيف ترى نتيجة هذا التطور؟
- كل مجموعة قصصية تمثل مرحلة إبداعية، وكل مرحلة تتمسك بمكتسباتها الفنية الجديدة، لكنها لا تنسى المراحل التي أسست لوجودها، وتعمل على تطويرها أيضا إذا اكتشفت إمكانية ذلك، الإبداع عملية تراكمية بالأساس، ولا يوجد بناء يعلو في الفراغ، المهم أن يظل المبدع في ارتفاع دائم، لا يهم أن يكون سريعا أو بطيئا، المهم أن يظل يعلو بلا توقف أو تكرار.

• إذا كنت قد انصرفت عن كتابة القصة القصيرة إلى غيرها من الأجناس الأدبية فمتى حدث هذا؟ ولماذا؟
- السياق الطبيعي لانصراف كاتب القصة القصيرة كان باتجاه الرواية دائما، وبالنسبة لي لم يكن ثمة انصراف على الإطلاق، فقد تزامنت الكتابتين منذ البدايات الأولى في التسعينيات، ربما لأن "سحر الحكاية" كان الباب الكبير الذي دخلت منه، فصار السرد بالنسبة لي حالة ممتدة، تتوقف فقط إذا اكتملت، وسيان أن تكون رؤيتها جزئية فتتوقف سريعا، أو أن تكون رؤيتها كلية فيمتد سيرها، الآن تأسرني الرؤية الكلية الشاملة، وأرى تحقق وجودي فيها، فيأخذني امتداد السرد، أعشق الرواية لكنني كثيرا ما أضبط نفسي متلبسا بدخولها، وأنا أحمل على كاهلي أسلحة القصة القصيرة فأبتسم، لكنني لا أكف عن السير تاركا روحي لامتداد الطريق.

لكن الآن لم يعد السياق الطبيعي الأول وحيدا، فثمة سياقات أخرى جاورته، وزاحمته كتفا لكتف، ووجودا بوجود، وأهمية بأهمية، فصار من اليسير أن ينصرف القاص إلى قصيدة النثر، إذا ما قبض على شعرية السرد، وامتلك الايقاع، أو أن ينصرف إلى النص العام "عبر النوعي أو متعدي الأنواع" متعدد الدلالات، والعصي على التصنيف، والذي أعتقد أن كثيرا من الأنواع الكتابية تلهث باتجاهه، وأن سعار العالم اللاهث نحو الجنون الآن سيشكل ملامحه قريبا.

• كيف ترى مستقبل هذا النوع الأدبي؟
- السياق الإبداعي العالمي يشير باتجاه الرواية، ليس فقط لاتساع رؤيتها، أو قدرتها على حمل الإنسان بالعالم الذي يموج فيه، بل من أجل السينما والدراما والمسرح، ربما أكون مخطئا، لكنني أعتقد أن "الرؤية البصرية" ستشكل مستقبل الإبداع في العالم، أما السياق الأدبي العربي فلا ينبئ بالكثير.