رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إيران وأمريكا.. الصفعة بالصفعة




جاء مقتل قائد فيلق القدس الإيرانى قاسم سليمانى، ليغير قواعد الاشتباك بين الولايات المتحدة وإيران على أسس جديدة مختلفة، فطوال العقد الماضى كانت إيران حريصة على تمديد نفوذها، بعيدًا عن الصدام المباشر، واستغل سليمانى الذى عُرف عنه تنسيقه الشديد مع المتطرفين الشيعة المناهضين فى ظاهرهم الذين عرّبوا المشروع الأمريكى فى المنطقة «دول الخليج وعدد من القيادات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية»، فيما كانوا يعملون على إدامة مشروع صراع وهمى إيرانى- أمريكى على حساب أموال ودماء الخليج والعراق وسوريا.
استطاع سليمانى أن ينسج خيوطًا من العلاقات الواسعة بحماس وحركة الجهاد الإسلامى منذ أن كانت موجودة على الأراضى السورية، ويقال إن سليمانى تواجد فى غزة لأكثر من مرة، ويذكر لى أحد القيادات المهمة أن لقاءً مهمًا جمع خالد مشعل وسليمانى فى بيروت عام ٢٠٠٨، جرى اللقاء بحضور عدد من القيادات السورية ومحمد كوثرانى مسئول ملف العراق فى حزب الله، على خلفية حضور هذا الجمع حفل تأبين عماد مغنية الذى قُتل فى هجوم شنته إسرائيل.
لم تخف على الأمريكان تحركات سليمانى، فهو مرصود ومتابع، ويقول ديفيد بتريوس، وهو أحد قادة الجيوش الأمريكية فى العراق ومستشار عسكرى مهم: كنت أتابع تحركات سليمانى، وكان هناك تنسيق بعدم وقوع صدام ما بيننا، فلكل منا أهدافه وخططه للحفاظ على مصالحنا.
جاء مقتل سليمانى لينهى فصلًا مهمًا فى شكل العلاقة بين الولايات المتحدة وإيران، التى لم ترغب فى أن تظهر ضعيفة أمام أذرعها التى شكت كثيرًا من أن هناك من قادة الحرس الذى يشكلون حمائم سلام مع أمريكا، على رأسهم وزير الدفاع الحالى حسين دهقان، وعدد كبير من قيادات الجيش التى ترى أن أى حرب مع أمريكا ستكشف عورة أسطورة القوة الصاروخية الوهمية لإيران، فى مقابل المتشددين الذين يرون أن الضربة لا بد أن تكون ذات صدى إعلامى يعيد لإيران هيبتها الإقليمية والداخلية، وتكسب بها تعاطف الشارع الإيرانى، بل والشيعى الذى رأى فى مقتل الرجل الثانى فى النظام الإيرانى أن كل ما سمعه منذ٤٠ عامًا ما هو إلا أكاذيب.
وقعت الضربة الإيرانية ولم تُخلّف خسائر فى الأرواح، ما يعنى أنّها ضمن السقف المسموح به، والذى لا يستدعى حربًا شاملة، وبهذا تجنبت إيران أن يقتل أىٌّ من قياديها مستقبلًا، والضربة الصاروخية عمليًّا تمثل أقسى ما تملكه إيران للرد على اغتيال سليمانى، ولن تعقبها هجمات أخرى، وأيضًا تشير إلى حجم الأضرار، خاصة فى الأرواح، وهو مُحدد رد الفعل الأمريكى، وليست الضربات فى حد ذاتها، مع عدم وجود قتلى، يعنى أنه حدث يمكن أن يحتوى، وقد حصل ذلك بالفعل عندما قال ترامب إن كل شىء على ما يرام.
أرادت إيران أن تكون حدود الرد بما لم تتجاوز العراق، وهو مسرح اغتيال سليمانى، وجاءت من الحرس الثورى، وليس من الأذرع أو الأطراف التى تراجعت عن إطلاق الصواريخ على السفارة الأمريكية، وقالت إن مَن قام بذلك ميليشيات لا تنتمى إلى الحشد الشعبى الذى لن يرد على مقتل الرجل الثانى أبومهدى المهندس، على الأقل فى الفترة الحالية حتى انتهاء أزمة تشكيل الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة.
جاءت بيانات الحرس الثورى تتحدث عن مشاركة إسرائيل فى اغتيال سليمانى، يُفهم من هذا أنّ التحرك القادم، حال التصعيد الأمريكى، ردًا على قصف القواعد الأمريكية بالعراق، سيطال إسرائيل. حزب الله من سيفعل ذلك، وإيران تحاول تُسويق الهجوم بشكل جيّد فى الداخل الإيرانى، بما يُشبع حالة الغضب العامة فى الداخل. ويشكل أيضًا موضوع التظاهرات التى عمت إيران بعد إسقاط الطائرة الأوكرانية وحالة الغضب التى سادت شوارع طهران، خصوصًا فى ميدان أزادى «الحرية»، والذى يمثل رمزية كبيرة لدى الإيرانيين، فهو ميدان ثورة الخمينى ١٩٧٩، وما تبعها من تغريدات بالفارسية للرئيس ترامب، قراءة على أنها تحذيرات لقادة إيران، ونظرة لتعامل مختلف مع الداخل الإيرانى الذى أُهمل لسنوات من قبل الإدارات الأمريكية السابقة.
لقد طويت صفحة من التصعيد الجنونى، وبدأ فصل جديد من العلاقة بين طهران - واشنطن، وفق محددات جديدة، أبرزها رد الصفعة بصفعة، وانتهى الموضوع على ألا يتم تجاوز المصالح المشتركة بين الطرفين فى الخليج، ومع زيادة الضغوط الاقتصادية بما لا يعنى موت النظام الإيرانى، ويعطيه فسحة من المناورة فى العراق وسوريا واليمن ولبنان، مع الحفاظ على الشريك فى العراق وهو أمريكا، وسنرى فى الأيام المقبلة دورًا كبيرًا لظريف ولحمائم النظام الإيرانى، بمشاركة أطراف أخرى، كأوروبا أو الصين أو روسيا، للوصول إلى تفاهمات تضع حدًا للتصعيد الجارى بشكل فعلى.