رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المبادرة الروسية التركية ومحاولة اختطاف الملف الليبى


عقيلة صالح، رئيس البرلمان الليبى، وخليفة حفتر، قائد الجيش الوطنى، انسحبا من مباحثات موسكو دون توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، لأنه صيغ على نحو يعكس الرؤية التركية.. فايز السراج، رئيس ما تسمى «حكومة الوفاق»، وخالد المشرى، رئيس المجلس الأعلى للدولة، وقّعا عليه، متعللين بطلب وفد البرلمان مهلة للتشاور.. سيناريو لحفظ ماء الوجه، وتجنب إعلان فشل المؤتمر.
المباحثات كانت تنطوى على أسباب فشلها من قبل أن تبدأ.. الجيش الوطنى تمسك بتثبيت الأوضاع الراهنة للقوات على الأرض، خاصة داخل طرابلس وسرت، حفاظًا على مكاسبه، بينما أكد السراج الانسحاب المتبادل لقوات الجيش وميليشيات الوفاق!! والعودة إلى أوضاع ما قبل شن معركة «طوفان الكرامة» فى ٤ أبريل ٢٠١٩، مع إخضاع جميع المنافذ البحرية والبرية للإشراف الدولى، الأمر الذى يعنى إجهاض كل المكاسب التى حققها الجيش الوطنى فى طريقه لتحرير طرابلس، واسترداد الميليشيات كل ما فقدته من مناطق نفوذ.. حفتر كان يؤكد تفكيك الميليشيات ونزع سلاحها وسيطرة الجيش والشرطة على العاصمة، خلال مدى زمنى لا يتجاوز ٩٠ يومًا، لكن السراج تمسك بأن يكون ذلك المدى مفتوحًا، واشترط أن يتولى منصب القائد الأعلى للقوات المسلحة، وهو منصب من المستحيل الوثوق فى شغله، بعد أن وقّع اتفاقًا يستقدم به المحتل التركى إلى بلادة.
حفتر اشترط ألا يُسند أى دور لتركيا فيما يتعلق بتثبيت وقف إطلاق النار، وعمليات الرقابة الدولية، لكن الاتفاق تضمن وقف إرسال قوات تركية لليبيا كنص خداعى، ثم سمح لها بدخول ليبيا بطريقة مشروعة وآمنة، من خلال مشاركتها فى الفريق المكلف بضمان تنفيذ وقف إطلاق النار والإشراف على المنافذ مع روسيا، ما يمكنها من مساعدة الميليشيات وتنظيم أعمال التهريب.. أما تكفل الجيش الوطنى بتأمين آبار النفط والغاز، ومكافحة الإرهاب، فهو الوضع القائم حاليًا منذ أن تم تحريرها عام ٢٠١٦.. تركيا آخر دولة تصلح للوساطة لأنها منحازة للسراج، وهناك قرار من البرلمان بقطع العلاقات معها، وهى صاحبة مصلحة فى التدخل المباشر فى ليبيا.. أى ارتباك حلّ بحسابات المصالح الروسية.
والحقيقة أنه حتى لو افترضنا توقيع وفد البرلمان الليبى على الاتفاق، فإن عملية الانتقال من مرحلة تثبيت وقف إطلاق النار إلى مرحلة التسوية ستكون بالغة الصعوبة، إن لم تكن مستحيلة، لأن التسوية السياسية تعكس الواقع على الأرض، والواقع الراهن يمثل اختلالًا كبيرًا لصالح الجيش الوطنى، ما سيدفع الميليشيات بدعم تركى إلى محاولة تغيير ذلك الواقع حتى تعكس التسوية حالة التوازن، الأمر الذى يعنى تعدد الاختراقات وجولات أخرى من المواجهات.. وهناك حقائق بديهية، يؤكدها التاريخ القريب، ينبغى أن توضع فى الحسبان؛ ليبيا تعانى التقسيم، ومهمة الجيش الوطنى أن يوحدها وأن يتصدى لأصحاب المصلحة فى سقوط مؤسسات الدولة، وفرض الأمر الواقع خارج سلطة القانون.. سقوط الدول يُطلق العنان للميليشيات والعصابات المسلحة، وهذه لن تقضى عليها إلا قوة مسلحة وطنية، وذلك ما حدث فى إيطاليا على يد قوات «غاريبالدى» ١٨٦٠، وفى ألمانيا بمعرفة جيش بسمارك ١٨٧١، فلماذا ننكر حق ليبيا فى التحرير والوحدة على أيدى جيشها الوطنى؟!
التدقيق فى التداعى الزمنى للوقائع يقدم حقائق كاشفة؛ تركيا أعلنت عن إرسال قواتها إلى ليبيا للتصدى للجيش الوطنى استجابة لطلب السراج.. زعماء قبائل سرت الشرفاء انقلبوا عليه واستعدوا لمواجهة احتمالات التدخل التركى، بتيسير دخول الجيش الوطنى للمدينة، وطرد الميليشيات التابعة للسراج، ما قلب التوازن العسكرى وأربك الحسابات التركية.. الميليشيات استخدمت سرت لتهديد الهلال النفطى الذى يتولى الجيش تأمينه، وقاعدة سرت الجوية ظلت مصدر تهديد عملياتى خطيرًا.. سيطرة الجيش عليها حققت عدة أهداف استراتيجية؛ الأول: إنه بات من الصعب على الميليشيات قطع خطوط الإمداد الخاصة بالجيش فى الشرق أو الجنوب.. الثانى: إن الجيش قد بات متمركزًا على أبواب العاصمة.. الثالث: إنه بالسيطرة على سرت والتوجه لمحاصرة مصراتة، خط الدفاع الأخير عن طرابلس، لم يتبق تحت سيطرة السراج سوى العاصمة وبعض المدن الصغيرة على البحر المتوسط، وخط الحدود مع تونس، وأهمها زوارة.. الرابع: اكتمال الضغط على الجناح الشرقى لقوات مصراتة، التى تتولى تأمين النقاط الدفاعية فى الضاحية الجنوبية لطرابلس، ما يفرض عليها إعطاء أولوية للدفاع عن أراضيها، وبالتالى سحب ميليشياتها من العاصمة.. هذا التطور وحده كان كفيلًا بإسقاط العاصمة فورًا، لأنها عماد دفاعاتها، لذلك بات الدعم التركى أكثر إلحاحًا للميليشيات.
السراج ألحّ فى طلب الدعم، وأردوغان خشى من الانهيار السريع للميليشيات، فلجأ إلى حليفه الروسى لسرعة فرض وقف إطلاق النار، قبل أن يعكس ذلك الاختلال موازينه على الأرض، وللأسف فقد خشيت روسيا من التشهير السياسى بعد أن هدد أردوغان علانية بفضح أبعاد تدخلها فى ليبيا، وعلاقتها بطرفى النزاع، ما يفسر حرص روسيا على إرضاء تركيا، والسعى لاحتواء الموضوع بتسوية تعتمد على تبادل المصالح على حساب ليبيا، ومن هنا خرجت المبادرة الروسية التركية لفرض الهدنة، ووقف تقدم الجيش، تحت تأثير فرحة الرئيس الروسى بافتتاح خط السيل التركى «تركش ستريم»، الناقل للغاز الروسى إلى أوروبا.. بلادنا يا سادة تُقَسَّم على موائد اللئام.
والغريب أن روسيا هى من دفعت بتركيا إلى الصدارة لتمارس دورًا رئيسيًا فى تسوية الأزمة، وذلك انطلاقًا من تحالفهما، واستنادًا إلى سابقة تعاونهما فى سوتشى وأستانة بخصوص المشكلة السورية.. هذا التوجه يتعارض بشكل أساسى مع مصالح الأمن القومى العربى فى ضوء التهديدات التركية العديدة له.. دخول تركيا شريكًا فى الملف الليبى أمر بالغ الخطورة، فهى أولًا طرف منحاز منذ البداية إلى جانب ميليشيات السراج، وهى ثانيًا صاحبة مصلحة فى عدم التوصل إلى تسوية سياسية للأزمة، واستمرار التقسيم والفوضى، باعتبارهما المناخ المناسب لاستقبال الميليشيات والجماعات الإرهابية المنسحبة من سوريا، تخفيفًا للضغوط الأمنية عن الداخل التركى، وتحقيقًا لمصالحها، وهى ثالثًا فى خصومة عميقة مع مصر، منذ أن أطاحت بنظام حكم الإخوان، ما دفعها على مدى السنوات الماضية إلى تبنى فلوله، ومحاولة تعزيز أنشطتهم بالداخل المصرى وفى سيناء بكل صور الدعم.. وجودها فى ليبيا على أى نحو يعتبر تهديدًا للأمن القومى المصرى.
وهناك الأكثر غرابة؛ وهو أن يتزامن ذلك التحرك الروسى بكل هذا الزخم مع تهديد عقيلة صالح بطلب تدخل مصر المباشر لردع التدخل التركى، وتصاعد الدور المصرى بعد الاتفاق التركى، ووقوف المجتمع الدولى صامتًا أمامه، رغم أن الاتفاق يكفل تقديم كل أشكال المساندة العسكرية للميليشيات، بما فيها التدخل العسكرى المباشر، ما يعنى انتهاء فاعلية القرار ١٩٧٠ لعام ٢٠١١، الخاص بحظر توريد السلاح إلى ليبيا، وعجز المجتمع الدولى عن تنفيذه، أو ردع المخالف.. التأييد الدولى للتحرك الروسى، بما فيه موقف أمريكا، والقوى الأوروبية المعنية يثير الدهشة، ويطرح التساؤلات: هل هى خطة لحصار الجيش الوطنى الليبى أم محاولة لتطويق مصر ودورها الفاعل فى المنطقة؟!.
المبادرة الروسية التركية فى توقيتها كانت مؤامرة موجهة مباشرة إلى مؤتمر برلين، المزمع عقده ١٩ يناير الجارى.. ألمانيا كانت تسعى لأن يكون المؤتمر هو الإطار السياسى للتسوية الدولية للأزمة الليبية بعيدًا عن التنافسات الأوروبية التقليدية، وتناقضات المصالح بين فرنسا وإيطاليا، وهى التى أجهضت نتائج مؤتمرى باريس مايو ٢٠١٨، وباليرمو نوفمبر ٢٠١٨، لكن روسيا كانت تقف بالمرصاد لترد ثأر خديعة «ناتو» التى انطلت عليها عام ٢٠١١، بمحاولة القفز على المؤتمر واختطاف ملف الأزمة الليبية لتتم تسويتها، إذا كان مقدرًا لها التسوية، وفقًا لمعادلة المصالح الروسية التركية.. عملية الاختطاف اعتمدت نفس الآليات التى ثبت نجاحها فى نقل ملف الأزمة السورية من جنيف الدولية إلى سوتشى الروسية.. وبالنسبة لتركيا، فمنذ أسابيع قليلة لم تكن ألمانيا تنتوى دعوتها لحضور المؤتمر، استنادًا إلى قناعتها بأن الوجود التركى فى مؤتمر باليرمو كان عنصرًا معوقًا للتفاهمات، ومثيرًا للأزمات، خاصة عندما انسحب فؤاد أقطاى، نائب أردوغان، احتجاجًا على استبعاده من حضور لقاء قمة محدود على هامش المؤتمر.. المبادرة الروسية وتدخل أنقرة العسكرى فى ليبيا، دفعا بتركيا إلى قلب المعادلات السياسية، كعنصر فاعل فى برلين، مما لا تبشر نتائجه بالخير.
تركيا مارست دورًا عسكريًا غامضًا وقبيحًا فى ليبيا لكى تفرض وجودها السياسى، تفاصيل وحجم هذا الدور ربما كانت موضع خلاف، لكن المؤكد أن هناك حاليًا فريقًا من العسكريين الأتراك فى مصراتة يقدمون الدعم الاستراتيجى والمعلوماتى والتدريبى.. وأن هناك جسرًا جويًا تم تدشينه بين إسطنبول ومطارى معيتيقة ومصراتة لنقل العسكريين الأتراك، وقرابة ١٠٠٠ من عناصر المرتزقة السوريين والتركمان.. وأنه تم افتتاح أربعة مكاتب للتطوع فى عفرين شمال حلب لتجنيد مرتزقة جدد.. وأن هناك حوالى ١٧٠٠ منهم تم دفعهم لمعسكرات التدريب فى تركيا، تمهيدًا لتسفيرهم إلى ليبيا.. إضافة إلى تأسيس شركة خدمات أمنية لتتولى الإشراف على كل هذه العمليات، ما يؤكد نية تركيا فى الإقدام على مزيد من التورط الخارجى فى المنطقة، خلال الفترة المقبلة، خاصة أن هناك جهودًا لإعادة تنشيط خلايا التهريب الموجودة فى ليبيا منذ ٢٠١١، التى كانت تتولى تهريب المرتزقة من شمال إفريقيا إلى سوريا، على أن تعمل فى الاتجاه العكسى.. التمدد العثمانى هو أحد أهم محاور السياسة الخارجية التركية التى تفرض التحسب والمتابعة خلال السنوات المقبلة.
الوجود التركى فى سوريا والعراق وقطر والصومال وليبيا وشمال قبرص وشرق البحر المتوسط، علامات إنذار حمراء، ينبغى أن تكون موضع تفكير وتدبر، وبحث لآليات التعامل، فى إطار رؤية مصر واستراتيجيتها الإقليمية والدولية، فالمصالح الوطنية قد لا تتسنى كفالتها دائمًا بالتمسك بمبادئ عدم التدخل، وقواعد الأخلاق ومواثيق الشرف، فى زمن عزّ فيه كل ذلك.. أوضاع المجتمع الدولى وآلياته أضحت تفتح المجال واسعًا أمام نجاح أساليب العربدة والبلطجة، والنموذج التركى الفج دليل على ذلك، ما يفرض وضع آليات للتعامل، وأدوات وأساليب لحماية مصالحنا الوطنية.. رسالتى دعوة لسرعة التفاعل، قبل أن تثير الدهشة واليأس.