رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لأول مرة.. شهادة الشهيد هشام بركات عن فض «رابعة»


ألا يستحق النائب العام الأسبق الشهيد هشام بركات منا بعض الوفاء؟ نعم، نحن نعلم أن الدولة، وعلى رأسها الرئيس عبدالفتاح السيسى، قد وضعت هذا الشهيد فى مرتبته العليا التى يستحقها، ولكننى أسأل عن الشعب.. أين نحن منه؟ بل أين نحن من القضاء المصرى كله؟ لك أن تتحدث عن القضاة كما تشاء، ولكن يجب أن تظل متذكرًا أنهم كانوا حملة مشاعل الثورة ضد الاحتلال الإخوانى، كانت البداية حينما انتفضوا دفاعًا عن استقلال القضاء، ثم حينما تهدد استقلال الوطن كله كانوا هم، دون أن نبخس حق أحد، الطليعة التى أثارت حمية الشعب كله، ولا يظن أحد أن هذه السطور تم تدبيجها لإعلاء فئة عن فئة أو طائفة عن طائفة، أو مهنة عن مهنة، وإلا لكانت الكلمات عرائس بلا روح، ولكنها كلمات تم نحتها من واقع مصرى أصيل كان القضاة هم صانعوه مع غيرهم من طلائع النخب المصرية، كالمثقفين والمحامين والإعلاميين والفنانين وغيرهم، هذه كلمات مضمخة بالمشاعر، أعتبرها عرفانًا لتضحيات القضاة، ويحدونى الأمل أن تكون وسامًا على صدور أصحابها، وأول المستحقين وسام البطولة هو الشهيد هشام بركات، عليه رحمة الله، فما أعظم الأوسمة حينما يمنحها الوطن بشعبه وبنيه قبل أن يمنحها الوطن بحكوماته ونظامه.


بؤرة الجماعة الإرهابية كانت خطرًا على أهالى المنطقة المحيطة والأمن القومى المصرى
فى شهر نوفمبر ولد «هشام محمد زكى بركات»، ويبدو أن مواليد هذا الشهر لهم خصائص تميزهم، فإذا ما اجتمع الشهر مع العام كانت الخصائص أكبر وأميز، وقد كان مولده فى عام ١٩٥٠، وأبرز الصفات الغالبة لمواليد هذا العام هى الشجاعة والعناد، وقد كان النائب العام هشام بركات شجاعًا حينما أصدر قراره بـ«فض اعتصام رابعة ولو باستخدام القوة الجبرية»، بحسب أنه اعتصام إجرامى مسلح يشكل خطرًا على الأهالى، كما أنه كان يقطع الطريق، وضع فيه الإخوان المعتصمون سواتر حجرية، وسيطروا على الميدان، بحيث إنهم أغلقوا المصالح الحكومية القريبة منه مثل وحدة المرور ونيابة المرور، كما أنهم قبضوا على عدد من الأهالى وحبسوهم فى دور المناسبات لمسجد رابعة وأعملوا فيهم التعذيب، ظنًا منهم أنهم جاءوا ليتجسسوا على المعتصمين، كما أنهم قتلوا عددًا آخر، وكانوا قد استطاعوا القبض على معاون مباحث مصر الجديدة وأوسعوه ضربًا وتنكيلًا وغير ذلك من جرائم كثيرة.
ثم أصبح هذا الاعتصام يشكل خطرًا كبيرًا على مصر بعد أن قامت أدلة يقينية على أن الإخوان المعتصمين يخزنون عددًا من الأسلحة فى مخزن لهم بأحد المولات القريبة، ثم قامت ميليشياتهم المسلحة بهجمة على مقر الحرس الجمهورى، وأطلقوا على جنوده الرصاص، ونتج عن هذا وقوع قتلى ومصابين بالعشرات، وغير ذلك من الجرائم الكثيرة التى ارتكبوها تحت مظلة هذا الاعتصام، ثم كان أن استقبلوا وسط عصبتهم عددًا من لجان حقوق الإنسان ومبعوثين دوليين، وقد استهدفوا من هذا خلق واقع موازٍ للحكومة التى تقلدت أمور البلاد عقب ثورة الثلاثين من يونيو، الأمر الذى كان يشكل خطرًا كبيرًا على الأمن القومى المصرى.
كانت شجاعة لا شك فى هذا من هشام بركات، حينما أصدر قرار الفض هذا، وكانت مسئوليته القضائية هى التى دفعته إلى المضى قدمًا فى قراره، وكأن التاريخ كان ينتظره ليسجل بعد ذلك العديد من الأحداث.

لم أتردد لحظة وأنا أوقِّع قرار إنهاء التجمع المسلح
لا أخفيكم سرًا أننى كنت من المحظوظين عندما أتاحت لى الأقدار أن ألتقى الشهيد هشام بركات أكثر من مرة، وكنت من القلة التى عرفت منه مشاعره وهو يضع توقيعه على القرار الذى أصدره بالفض، كانت المرة الأولى عندما التقيته فى أحد الأفراح بعد أن أصبح نائبًا عامًا، وكان آنذاك فى رفقة المستشار عبدالمجيد محمود، وتولى عبدالمجيد محمود تعريفنا ببعض، فوجدته إنسانًا جادًا تبدو من مخايله الصلابة وقوة الإرادة، ومن بعدها مرت الظروف، التى نعرفها من فض للاعتصام المسلح فى ميدان رابعة، ثم محاولة الإخوان اغتيال اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، فى سبتمبر عام ٢٠١٣، لأنه كان وزير الداخلية الذى أشرف على فض الاعتصام، ولكن الله أفشل تدبيرهم، وغير ذلك من الأحداث الخطيرة، التى مرت على بلادنا، وكان الإخوان فيها هم أهل الاعتداء والإجرام.
وحدث أن طلبت لقاء المستشار هشام بركات لأتعرف منه على الحقائق والجرائم الجنائية التى صدرت من المعتصمين فى رابعة والدواعى التى دفعته لإصدار قرار الفض، فكان أن التقيته فى مكتبه بدار القضاء العالى عدة مرات متتاليات، وكانت كلمته الواضحة لى: إنها جريمة على أرض مصر، ومصر هى المجنى عليها، وأنا نائب عام مصر، فماذا تنتظر منى؟ كان يجب أن أضطلع بمسئولياتى.
ثم قال: «عبر حياتى تحملت مسئوليات كثيرة، نعم تفوقت فى دراستى بكلية الحقوق، وتخرجت فيها عام ١٩٧٣، ولن تصدق إذا قلت لك إننى تسلمت شهادة التخرج يوم السادس من أكتوبر، رغم أن شهادات التخرج كانت قد صدرت قبل ذلك بشهر على الأقل، ولكنها كانت مفارقة غريبة.
- كنتُ رئيسًا للمكتب الفنى لمحكمة استئناف الإسماعيلية، التى تتبعها بورسعيد، وقت تلك الأحداث المؤسفة التى حدثت فى استاد بورسعيد فى فبراير من عام ٢٠١٢، والتى نتج عنها مقتل العشرات من الشباب البرىء، وكان الواضح من تحقيقات تلك القضية أن للإخوان دورًا غير منظور فى هذه القضية، ولكن لم يكن أمام النيابة العامة وقتها إلا العمل وفقًا للأدلة، ولكن التاريخ سيكشف غموض تلك القضية.
- وكنت أيضًا الرئيس الأعلى للمستشار خالد محجوب، وهو ينظر قضية الهروب من وادى النطرون، وأشهد أنه كان جريئًا فى الحق، وكان على استعداد للتضحية بروحه فى سبيل أن يقيم العدل، ويكشف ذلك الجرم، الذى ارتكبه الإخوان بمساعدة حركة حماس لتهريب المساجين من الإخوان، وقد أعطيت الحرية للمستشار محجوب أن يتصرف فى قضيته كما يشاء، ويحكم فيها بما يرى أنه الحق، لا معقب عليه فى ذلك إلا ضميره.
- تم اختيارى لمنصب النائب العام، وهو شرف لا يدانيه شرف، فصاحب هذا المنصب هو محامى الشعب، ولكننى فى ذات الوقت كنت أعلم وقت أن قبلت هذا المنصب أننى سأواجه مشاكل كثيرة، قد لا يكون لها مثيل، والحقيقة لم أكن وحدى، ولكن كل من تقلدوا مناصبهم فى تلك الفترة كانوا يجلسون على كرسى المعركة.
- لم أتردد لحظة وأنا أوقع على قرار فض هذا الاعتصام المسلح، ولم يكن هذا القرار سياسيًا، ولكنه كان قضائيًا يستهدف حماية الأمن العام للبلاد، بعدما توافرت الأدلة على أنهم يحتفظون داخل الاعتصام بأسلحة، وأنهم ارتكبوا داخله العديد من الجرائم التى ترتب عليها مقتل عشرات الأشخاص، وأنا أعلم علم اليقين أننى سأكون مستهدفًا من تلك العصابة الإجرامية، ولكننى حينما أجمعت أمرى وأصدرت هذا القرار تذكرت الحديث الشريف «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشىء لم ينفعوك إلا بشىء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشىء لن يضروك إلا بشىء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».
- أنا لا أخشاهم، ولا يخيفنى أبدا أنهم حاولوا اغتيال اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية، والتحقيقات فى هذه القضية كشفت عن أنهم قرروا اغتياله على خلفية فض اعتصامهم المسلح برابعة، وأن حماس ساعدتهم فى ذلك، ولك أن تعلم أن اسمى هو فى صدارة قائمة اغتيالاتهم، وأنا أنتظر قدرى برضاء تام، لأننى أديت واجبى تجاه وطنى ودينى».
ولك أن تعلم أنه وقع فى خاطرى بعد هذا اللقاء أنه فى تاريخ الأمم لحظات يقتنصها رجال فيرفعون قدر أممهم أو يهوون بها إلى الجحيم، وقد كان من قدر أمتنا أن اقتنصت جماعة الإخوان لحظة تاريخية وصلت بها إلى الحكم، ثم إذا بها تأخذ البلاد إلى هوة سحيقة، ولكن الله كان قد قيض لنا أمرًا فقام من بيننا رجال أنكروا ذواتهم وتقدموا الصفوف ليصنعوا لحظة يعيدون بها الأمة إلى مسارها الصحيح، والحق أنهم لم يكونوا وحدهم ولكنهم كانوا فى موضع القيادة فاقتدى بهم أخلاط من الوطنيين، وسارت خلفهم أمة بحالها، وقد كان فى مقدمة هؤلاء القادة النائب العام المستشار هشام بركات، الذى كان يعلم وهو يصدر قراره بفض ذلك الاعتصام المسلح أن حياته قد تكون ثمنًا لهذا القرار القضائى الوطنى، ولكنه لم يخف ولم يتراجع، وإذا كان التاريخ يَصنع فى بعض الأحيان رجالًا، فإن هناك رجالًا يصنعون تاريخًا، لذلك فإننى أشهد أن الشهيد هشام بركات صنع تاريخًا.

طبيبة إخوانية تولت تمويل خلية استهدافه بالتعاون مع يحيى موسى.. والقتلة اعترفوا بجريمتهم وافتخروا بها
جاء يوم الإثنين التاسع والعشرون من يونيو عام ٢٠١٥، وهو الموافق للثانى عشر من شهر رمضان، جاء وقت التضحية بالحياة من أجل حياة أمة، ويخرج الصائم من بيته فى مصر الجديدة ليتوجه إلى عمله، ولم يكن هذا الصائم شخصًا عاديًا، ولكنه كان النائب العام لمصر، كان هو هشام بركات، الذى تلقى عشرات التهديدات من الإخوان بالاغتيال ولكنه لم يلق لها بالًا، لا يصطحبه فى الذهاب إلى عمله إلا سيارة الحراسات، ولا يجلس معه فى السيارة إلا السائق وأحد الحراس، وكان الصباح يُعبِّر عن نفسه بمسحة من الحزن لاحت منذ تباشير الصباح الباكر، وإذا بالتليفزيون يعلن عن أن النائب العام تعرض لمحاولة اغتيال عن طريق وضع سيارة مفخخة بالقرب من بيته، وأن الجناة قاموا بتفجير السيارة أثناء مرور موكب النائب العام بجوارها، ما نتج عن هذا التفجير موجة انفجارية تخلخلية كبيرة، وأصبح هشام بركات هو الشهيد الحى، هذا هو الشهيد الذى أحيا أمتنا بعد أن واجه بقراره هذا التنظيم الإرهابى المسلح، وتلك المسوخ الشيطانية التى ارتدت ثوب الدين، وما أعظم هذا الخطب الذى وقع على رأس مصر، هذه أول جريمة فى تاريخنا يصل فيها الإجرام إلى نائب عام مصر، ولكننى أخال أسرته وأهله ومجتمعه، بل مصر كلها وهى فى موضع الفخر به.
وحينما حدثت تلك الواقعة الأليمة، استطاعت الأجهزة الأمنية، عن طريق مراقبة الكاميرات ووسائل وأساليب البحث الجنائى، الوصول إلى القتلة، واتضح أن هناك طبيبة إخوانية اسمها «بسمة رفعت إبراهيم» متورطة فى تمويل الخلية المتهمة فى اغتيال الشهيد هشام بركات، وقد ثبت من التحقيقات أن تلك الطبيبة هى واحدة من قيادات قسم الأخوات فى تلك الجماعة، كما ثبت أن يحيى موسى- القيادى الإخوانى الهارب فى تركيا- المتورط فى تمويل الخلية، قام بتحويل مبالغ مالية ضخمة إلى تلك الطبيبة المتواجدة فى مصر، وذلك عن طريق بنك قطرى له فروع فى تركيا ومصر، فتوالى بعدها القبض على المتهمين الذين اتضح أنهم من الإخوان، وقد أدلى بعضهم باعترافات تفصيلية، وظهرت عشرات الأدلة، التى أكدت ما ورد فى اعترافات المتهمين، ليست عشرات فحسب، ولكن أكثر من مائة وثلاثة عشر دليلًا، ثم إذا بهم فى اعترافاتهم يضعون تأصيلًا لهذا الاغتيال، فقال المتهم محمود الأحمدى إنه يعترف بما فعله لأنه لم يرتكب جريمة، ولكنه كان يدافع عن الإسلام، وإن قادة الجماعة أفتوا لهم باستباحة دم النائب العام، تحت زعم قاعدة شرعية تسمى «دفع الصائل»، وأخذ هذا المتهم يضع فى التحقيقات تأصيلات مسهبة لهذه الفتوى، على زعم من أن النائب العام تعدى عليهم حينما أصدر قرار فض اعتصام رابعة، وأن تعديه لا يزال قائما من خلال التحقيقات التى يجريها معهم فى القضايا الأخرى، وأنهم إنما يدفعون هذا الاعتداء، وكان من اعترافاتهم أنهم لا ينكرون هذه الاتهامات، لأنها محل فخر لهم، ولكى تعلم الأجيال القادمة أنهم كانوا من المجاهدين!!
هل تعلمون أن بعضهم قال فى التحقيقات إن يد القضاء لن تطولهم، إذ فى ظنهم أن ثورة ستقوم وسيعود حكم مرسى والإخوان، وإنهم حينئذ سيخرجون من محبسهم لترفعهم جماهيرهم فوق الأكتاف، وهذا هو الوهم الذى عشش ولا يزال يعشش بغربانه وبومه ونعيقه فوق رءوسهم، هؤلاء يعيشون تحت وطأة إنكار الواقع، ولذلك يخلقون واقعًا بديلًا، يعيشون فيه على وهم امتلاك الحقيقة، ولا يأبهون وهم فى حربهم للقوانين التى تنظم المجتمعات، وتضع تجريمًا عقابيًا للجرائم، بل إنهم يعتبرون أن تلك القوانين هى من قوانين أهل الجاهلية، وأن الجهات القائمة على تطبيق القانون تعيش فى ظلام الجاهلية! وبالتالى تجب مقاومة تلك القوانين والتعدى بالقتل على كل من يقوم بتطبيقها، سواء كانوا من رجال الأمن أو من رجال القضاء.
واستمرت التحقيقات فى قضية الشهيد هشام بركات، وتوالت اعترافات المتهمين، وللعلم لم تكن تلك الاعترافات هى دليل تلك الدعوى الوحيد، إذ إن كل من يعلم ألف باء القانون يعرف أن الاعترافات أمام النيابة العامة ما هى إلا قرائن يجب أن تكون مؤيدة بالأدلة، وإلا فإن النيابة لا تعوِّل عليها، والقضاء بعد ذلك ينحيها جانبًا ولا ينظر فيها إذا ما كانت هى وحدها سند الاتهام، خاصة إذا كان المتهمون أمام المحكمة قد أنكروها أو عدلوا عنها، وإذا بأدلة أخرى تظهر عن الفتاوى التى اعتمد عليها المتهمون فى تنفيذ جريمتهم، وها هو بحث شيخهم الأزهرى مجدى شلش عنوانه «التأصيل الشرعى لوجوب مواجهة الانقلابيين بكل وسيلة مستطاعة»، وإذا بهذا البحث عبارة عن فتاوى إرهابية تحض على القتل والتخريب وسفك الدماء، وتعطى لهم الحق فى اغتيال النائب العام.
ولكن ما يعنينا ونحن نضع ذلك الوسام على صدر الشهيد هشام بركات أنه تحوَّل من رجل من بنى الناس إلى معنى وقيمة إنسانية ووطنية وقضائية رفيعة لم يصل إليها أحد من أقرانه قبل ذلك، وحينما توفى المستشار إلى رحمة الله كان ذلك فى نهار رمضان، لقى الله وهو صائم، لقى الله وهو فى طريقه إلى عمله، الذى كان يعلم أنه سيكون طريقه إلى الشهادة، وذهب إلى القدر الذى كان ينتظره، والذى كان يشعر به ويتحسس خطواته.