رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سيد الوكيل: القصة القصيرة فن مرن يقبل كل عناصر السرد

سيد الوكيل
سيد الوكيل

قبل عامين أطلق الكاتب والناقد سيد الوكيل مدونته "صدى.. ذاكرة القصة المصرية"، والتي تعد بمثابة ببلوجرافيا للقصة القصيرة بجهد ذاتي صرف. إلى جانب رئاسته لتحرير سلسلة إبداعات قصصية التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب. صدرت له المجموعات القصصية: أيام هند، للروح غناها، مثل واحد آخر، لمح البصر. في هذا اللقاء تواصل «الدستور» سلسلة حواراتها حول فن القصة القصيرة، ورؤية "الوكيل" لهذا الجنس الأدبي وقضاياه ومستقبله على خارطة الإبداع المصري.


ــ من كتاب القصة القصيرة الذين قرأت لهم قبل أن تكتب هذا الفن الأدبي؟
بطبيعة الحال كان القاص الأشهر في وقتنا هو يوسف إدريس كان نموذجًا لم يرد كتابة القصة، بنصيحة النقاد الذين اعتبروه تشيكوف العرب. لكني فيما بعد قرأت للجيل التالي له، أقصد الستينيات أمثال إبراهيم أصلان وبهاء طاهر وسعيد الكفراوي، وهم من عرفوا بكتاب الحساسية الجديدة كما نظر لها إدوار الخراط. فأدركت أن حدود القص لم تقف عند إدريس ولا حتى تشيكوف نفسه، عندئذ أيقنت ضرورة أن يكتشف كل كاتب ذاته وإمكاناته، فلكل كاتب بصمته، عندئذ بدأت في البحث عن ذاتي، وقد استغرق هذا مني رحلة طويلة من التجريب.

ــ ما الذي لفتك اللي الاهتمام بالقصة القصيرة؟ وكيف بدأت تجاربك الأولى في كتابتها ؟
طوال الخمسينيات وحتى الثمانيات كانت القصة الفن الأهم لهذا كتبت القصة كغيري.. وتصادف أن أول قصة كتبتها فازت بالمركز الثاني في أول مسابقة عن أدب أكتوبر سنة 1977. جاء الأمر بالصدفة، مذ كنت مجندا وأقف على حراسة غواصة في القاعدة البحرية، ومر بي أحد الصولات، فوجد في يدي كتابا، توقعت أنه سيعاقبني لأني أقرأ في نوبة الحراسة، ولكنه أخبرني بأن الشؤون المعنوية أعلنت عن مسابقة للقصة، وفجأة انبثقت في رأسي فكرة القصة، وكتبتها في الكتاب الذي معي، وبعد انتهاء نوبة الحراسة كتبتها، وسلمتها للشؤون المعنوية ونسيتها. وكانت المفاجأة بعد ستة أشهر من تسريحي من الجيش، أن اتصلوا بي وأخبروني بالفوز. إنه حظ المبتدئين، وإشارة لي بأن علي أن أكمل المشوار

ــ هل قرأت شيئًا عن أصول هذا الفن القصصي أو طرائق كتابته ؟
في منتصف الثمانينات انتسبت إلى كلية الآداب جامعة عين شمس، كنت أدرك أن علي ألا أكتفي بالكتابة، يجب أن أفهم فلسفة الأدب ونظرياته وعلم الجمال، ولا سيما بعد أن قرأت لكتاب عالميين، فعرفت أن ما أكتبه كلام فارغ. هذا أفادني فيما بعد فصرت ناقدًا بدرجة مبدع ففتحت طريقًا جديدًا في النقد أيضًا.
أغلب الكتاب في هذا الفترة هاموا بواقعية ماركيز السحرية، ولكني لم أفعل، قررت أن أبحث عن طريقي الخاص. وبعد أن حصل محفوظ على نوبل، انتبهنا إلى أهمية الرواية. وخلال التسعينيات فإن أهم الروايات التي صدرت لم تكن من جيل التسعينيات كما يعتقد البعض، كانوا في بدايتهم ما زالوا وأثبتوا جدارتهم بعد ذلك، لكن خلال التسعينيات ظهرت روايات مهمة للثمانينيين: منتصر القفاش وناصر الحلواني وسيد الوكيل وسعيد نوح والمرحوم حسين عبدالعليم، وأحمد والي وآخرين، وحقق كل منهم كتابة مختلفة تمامًا عن كل ما قبلها.. وهكذا بدأ زمن الرواية. ومع ذلك لم أتوقف عن كتابة القصة فآخر مجموعاتي القصصي كانت ( لمح البصر) سنة 2016.

ــ ما الذي يجعلك تختار إطار القصة القصيرة للكتابة دون غيره من أطر التعبير الأدبي ؟ هل يتعلق الأمر بحالتك النفسية أم بطبيعة الموضوع الذي تعالجه ؟ أم أن إمكانية النشر هي التي توجهك إلى هذا الاختيار؟

لدي 3 مجموعات قصصية كتبت بطريقة واحدة تقريبا، تنبثق الفكرة فجأة فأكتبها، بالتأكيد هناك محفزات لها، لكني لا أعرفها، قد تكون مجرد مشهد، أو ذكرى، أو شخص ما. أعتقد أن الكثيرين كتبوا بهذه الطريقة، لهذا كنا نردد أنني لا أكتب القصة، ولكن القصة هي التي تكتبني.. هذا صحيح في المجمل، لكن النتيجة لم تكن مرضية لي فهكذا تبدو القصص ذرات في الهواء متباعدة. لهذا أدركت أهمية التصميم المسبق لكتابة مجموعة قصصية وليس انتظار إلهامات شاردة ومباغتة.. هكذا محاولتي الأولى مجموعة (مثل واحد آخر) اعتبرها كتابة تخصني وحدي وغير مسبوقة لأحد، ولكنها صدمتني عندما تقدمت بها إلى جائزة الدولة التشجيعية، وتم حجب الجائزة هذا العام. شعرت بالإحباط ونحيت الإبداع جانبا وانشغلت بالنقد، وبعد مدة، أعدت النظر في المجموعة، واكتشفت أنها تمتلك مقومات رواية. ومنها ظهرت ( شارع بسادة) وهكذا فأسبقية التصميم لكتابة مجموعة قصصية، يفضي إلى فن بيني، بين القصة والرواية، وهو ما فعله إبراهيم أصلان في وردية ليل، وفعله محمد المخزنجي في حيوانات أيامنا. ثم فعله آخرون تحت مسمى المتتالية القصصية. ولكني توصلت مؤخرا، إلى مجموعة قصص صريحة ( لمح البصر) رغم اعتمادي على أسبقية التصميم، عندما جعلت الأحلام وحدة موضوعا للمجموعة، ومع ذلك احتفظت كل قصة باستقلاليتها.. كل ذلك انتهي بي إلى الإيمان بأن القصة القصيرة فن مرن جدا، وقابل للتشكل في صور شتى، حتى يمكن اعتبار رواية حديث الصباح والمساء لمحفوظ مجموعة قصص قصيرة خضعت لأسبقية التصميم. وهذا معناه أن لا فروق جوهرية بين القصة والرواية.

ــ ما الذي تهدف القصة القصيرة عندك إلى توصيله للقارئ؟ وهل تتمثل قارئك وأنت تكتب؟ ومن قارئك؟
لا أزعم أنني استهدف رسالة بعينها للقارئ، لأن القراء متنوعون في استقبالهم للعمل الأدبي. وقد يكون لكل قارئ ذاته المتلقية. لكن هناك ما يعرف في النقد بالقارئ المضمر، وهو أقرب إلى روح تتلبس الكاتب وقت الكتابة، وفي كل مرة تأتي بطبيعة وصورة مختلفة، أنا أحترمها، ولا أقهرها، إنها تقودني، من خلال حوار قد يكون هادئا أو صاخبا بينها وبين الذات الساردة. لهذا فالنص يمر بانحرافات عدة، هي مناط الإبداع في أي تجربة. ومن ثم فإن ما قصدته بأسبقية التصميم ليس هدفا أو رسالة ولا معنى مكتملا في رأسي، بقدر ما هو فضاء قابل للتشكل.

ــ ما مدى الزمن الذي تستغرقه كتابتك لإحدى القصص القصيرة ؟ وهل تواجه أحيانا بعض الصعوبات في أثناء الكتابة؟ مثل ماذا ؟
لكل قصة زمن لكتابتها، ولحظة لنهايتها. هذا متعلق بخبرة الكاتب وحرفية الكتابة. وأنا قلق بطبيعتي عندما أكتب، ربما طه حسين مسؤول عن هذا القلق، بعدما قرأت الأدب الجاهلي، وبعدما استقر في وعي مقولته الشهيرة ( إن الكاتب إذا اطمئن فسد).. أنا أخشى الفشل، لهذا أحايل نصوصي طويلا، بغض النظر عن حجمها، ونتيجة لذلك فإن إنتاجي قليل إذا قورن بزملاء آخرين، يكتبون بدون قلق، لا أعرف إذا كان قلقي نقمة أو نعمة، ولكنى الآن أعرف أن ما أكتبه لا يتشابه مع أي كتابة أخرى. وهذا أهم ما يميزني.. لست صاحب روائع، ولا حاصد جوائز، لكني بالتأكيد مختلف، أنا ذاتي.ولعل وهذا القلق كثيرا ما يتفاقم عندي، فأتعثر، وقد أتوقف عن استكمال العمل، فيصبح نقمة. ولكني دائما أفشل في أن أكون غير ذاتي. ومع ذلك احتفظ بتجاربي الفاشلة، وأحيانا أشعر أنها أكثر من تلك التي خرجت إلى الضوء.. لدي الكثير من النصوص غير المكتملة، ورغم أن بعض الأصدقاء يثنون عليها كثيرا، لكنني غير قادر على نشرها. ولكني أحتفظ بها، لم أفقد الأمل فيها تماما، أعرف أن بها شيئا مهما ومميزا، قد يكون أكبر من إمكاناتي الآن.

ــ هل استطعت من خلال ممارستك لكتابة القصة القصيرة أن تستخلص لنفسك بعض العناصر الحرفية التي تسعفك عند الكتابة ؟ مثل ماذا ؟
ما قصدته بأن القصة فن مرن جدا وقابل للتشكل، يعني أنها تقبل كل عناصر السرد ( زمان ومكان وشخصية وحدث وحوار.. بل وحلم.. إلخ) لكن هناك ما يعرف بزاوية النظر. وهو تقريبا ما قصدته بأسبقية التصميم، فهو لا ينشأ عن قصد ولكنه الكادر الذي انفتح أمامي في لحظة الكتابة، لهذا قد يظهر الزمان أو المكان على نحو محدد واضح. وقد لا يظهران، أو يظهران بإيماءات خافتة، متروكة للقارئ، وتمنحه حق التخيل وإعادة إنتاج النص وفق معارفه وخبراته الشخصية وهذا هو النوع المفضل عندي.. لكني اكتشفت مؤخرا، أن المحفز الأبرز عندي للكتابة الإبداعية عموما هو الشخصية، لهذا لم يكن من قبيل المصادفة، أن أول مجموعة قصصية (1990) حملت اسم شخصية (أيام هند) واحتوت شخصيات عديدة. كما أنها مقسمة على ثلاثة أقسام بحسب درجة حضور الشخصية واكتمالها في وعيى. ( وجوه، ملامح، رتوش).. لقد حدث هذا بدون وعي أو قصد، ولكني انتبهت له مؤخرا، عندما لاحظت أن كل رواياتي أيضا تنهض على الشخصية، ربما لأنها الكائن الحي المفعم بالأسرار والعوالم الباطنية هو شغفي. هكذا يصبح المكان والزمان عندي من قبيل لزوم ما يلزم، البعض ظن أن رواية ( شارع بسادة) رواية مكان، ولكنه أصيب بصدمة.. وتساءل ( أين الشارع هذا؟) إنها رواية عن أرواح هائمة لكائنات مطموسة في المكان.

ــ إذا كنت قد انصرفت عن كتابة القصة القصيرة إلى غيرها من الأجناس الأدبية فمتى حدث هذا؟ ولماذا ؟
أنا لم أنصرف عن شيء، أكتب القصة والرواية والنقد والمقال بنفس الروح القلقة المبدعة. لدي إيمان عميق بأن الذات المبدعة متعددة، وهذا ما يميزها عن ذات الطبيب مثلا، أو المهندس، بل والباحث الأدبي. إذ عليهم الالتزام بقواعد وإجراءات ومناهج لضمان نجاح عملهم. وبالمناسبة، هناك فارق مهم بين الباحث والناقد، فالنقد هو الوجه الآخر للإبداع كوجه العملة، لا يعني أنه منفصل عنها. لكننا نقع في الخلط بينهما. لهذا فليس كل باحث بارع يمكن أن يكون ناقدا. وبالنسبة لي، لقد أثبت لنفسي أن المبدع يمكن أن يكون ناقدا متميزا، وهذا ما سبقني إليه قليلون مثل إبراهيم فتحي ورجاء النقاش ومحمود أمين العالم وغيرهم. لكن هذه الظاهرة اختفت أو كادت. ومع ذلك فأمثال هؤلاء لهم تأثير مهم في تاريخ النقد وتطوره مثلا: رولان بارت... لكن القطاعان المؤسسي والأكاديمي -عندنا- لا يرغبان في الاعتراف بذلك. بل ويتعمدان تجاهل الناقد غير الأكاديمي. ومع ذلك يتكلمون عن التعدد والتجاور!!.. أمر مضحك وعبثي في الحقيقة، كل الذين قرءوا إبداعي أولا قالوا ( أنت مبدع جميل فلماذا النقد؟) وكل الذين قرءوا كتبي النقدية أحجموا عن قراءة إبداعي باعتبار الناقد مبدع فاشل.. فثم تاريخ من النقد المؤسسي رسخ هذه المقولة في أذهان الناس، ولكني متأكد أن الواقع يتغير وسوف يباغتنا بالكثير.. ما أفعله الآن أقرب إلى دور المثقف العام كما يصفه إدوارد سعيد، وقد أصبح ظاهرة في أوروبا، وأظن أنه سيصلنا حتما، لكن مع فروق التوقيت كالعادة. لايمكنني أن أتخيل مبدعا لا يقرأ في الفلسفة أو علم النفس أو الأنثربولوجي بل والفيزياء الحديثة..

ــ كيف ترى مستقبل هذا النوع الأدبي ؟
الأدب عموما يشهد تحولا كبيرا، وأبرز مظاهره. التحول من قيود الواقعية الصارمة وقضاياها العامة، إلى الإنسان وواقعه النفسي، وقضاياه الوجودية، ومن ثم تحرير الخيال الإنساني وغلبته، وفي الغرب، أصبح الخيال قرين المعرفة، لم تعد هناك مسافة كبيرة بينهما. لهذا فإن ما نكتبه الآن بوصفه رواية تاريخية مثلا، بارد وسطحي في مجمله. إذا ما قارناه بروايات مثل اسم الوردة لإيكو، أو اسمي أحمر لباموق، أو العطر لزوسكند، بل وحتي مايكتبه دان بروان هو مزج بين الخيال والمعرفة. بما يعني أن الخيال الماركيزي ينحسر، وأصبح البديل هو أن الخيال الجديد طريق للمعرفة.