رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرواية «لايت».. لا صلصة ولا ثوم




كنا نعرف الرواية النفسية والتاريخية والاجتماعية وغيرها، إلى أن ظهرت مؤخرًا الرواية «لايت»، أى الخفيفة- على حد قول كاتبة رواية «أبوشنب» أو «أبوشبت»- لا أذكر بالدقة. الكاتبة مذيعة، وتقدم نفسها كذلك بصفتها «مقدمة حفلات يحضرها السفراء»، يعنى حفلات جامدة، مش أى كلام.
قالت الكاتبة إنها انتهت من روايتها فى خمسة أيام لا أكثر، وفسرت ذلك بأنه كان لديها بالفعل سيناريو برنامج تليفزيونى فحولته لرواية، وكان جاهزًا، يعنى مجرد تنسخه وتكتب عليه من فوق «رواية».
وفى حوار معها بجريدة الجمهورية، قالت: «كتبت روايتى لكى تناسب مَنْ يملون القراءة سريعًا، وتعمدت أن تكون الرواية خفيفة (لايت)». يعنى هى لحقت خلال خمسة أيام تنسخ البرنامح، ولحقت تتعمد أن تكون الرواية خفيفة!، ولم يكن من الممكن لمثل هذه التصريحات أن تصدر من ثلاثين عامًا أو أكثر، عندما كانت الكتابة محاطة بجو من الجدية والتقديس، بصفتها مهمة شاقة يقودها نجيب محفوظ، أو رسالة يبثها عبدالرحمن الشرقاوى، أو اكتشافًا للعالم والإنسان يقدمه يوسف إدريس.
كان صدور مثل ذلك التصريح أمرًا مستحيلًا، لكن أشواك الاستهانة والاستخفاف بالأدب والكتابة نمت وكبرت مؤخرًا على أرضية المناخ التجارى العام الذى يحكم عمليات النشر والثقافة، وتضاعف النظر بخفة إلى دور الفن، وتضخم الاستسهال حد أن تصرح إحداهن بأن كتابة رواية أمر لا يستغرق أكثر من خمسة أيام، وهو المناخ التجارى ذاته الذى جعل صاحب دار نشر يطلب- صراحة- من زميلة أديبة إضافة بعض المشاهد الجنسية الساخنة والعبارات الحادة إلى روايتها، لأن ذلك «يساعد فى ترويج الكتاب جدًا».
هكذا عندما أمسى الكتاب مجرد سلعة صار من الممكن أن تتم كتابته فى خمسة أو ثلاثة أيام، كما يتم تعليب السردين فى ساعات قليلة.. هل يمكن حقًا كتابة رواية خلال أيام؟.
بهذا الصدد يقول الروائى البريطانى ريموند تاليس: «إن كتابة الكتب تغيرنا مثل قراءتها، وينطبق ذلك على كتابى عن الزمن والرثاء الذى كتبته على مدى عشر سنوات»، قد تحتاج كتابة رواية إلى عشر سنوات لكن ليس إلى خمسة أيام، ويقول نجيب محفوظ إنه فكر فى رواية «الحرافيش» عامًا كاملًا، واستغرق فى كتابتها عامًا آخر، يعنى عامين.
وتترافق ظاهرة الاستسهال هذه بموجة من الكتب التجارية والمقالات التى تدور حول كيفية كتابة العمل الأدبى فى فترة قصيرة. انظر مثلًا كتاب «كيف تكتب رواية فى مائة يوم»، حيث يسدى جون كوين، مؤلف العمل، نصائحه إلى الأدباء الشباب فيقول لهم: «وربما تكون نهاية الرواية هى: إمّا بموت البطل أو موت الشرير، وإذا عجزت عن التقدم بقصتك فما عليك إلا أن تقتل شخصية ما».
وردًا على سؤال أحد القراء عن الزمن الذى تستلزمه كتابة الرواية، يجيب محرر أحد المواقع الأدبية: «إذا كان الكاتب يمتلك الموهبة والوقت فسيكون قادرًا على إنجاز العمل فى شهر، بفرض أن الرواية من ثلاثين ألف كلمة، وأنه سيكتب يوميًا ألف كلمة»، لكن للكتاب الحقيقيين نظرة أخرى، وبهذا الصدد يقول الروائى الأمريكى، جوناثان سافرانفوير، إن روايته «ها أنا ذا» استغرقت منه عشر سنوات لكتابتها، وتقول الشاعرة البريطانية روث باديل: «ثمة قصيدة أتعبتنى على مدى عدة سنوات».. قصيدة واحدة. ويقول مارك توين عن كتابه «ما الإنسان؟»، الذى نشره عام ١٩٠٦: «بدأت الدراسة من أجل كتابة هذه الأوراق منذ خمس وعشرين أو سبع وعشرين سنة، وكتبتها منذ سبع سنوات، وقد راجعتها منذ ذلك الحين مرة أو مرتين كل عام».
ويعتبر جورج أورويل، صاحب رواية «١٩٨٤»، أن الكتابة: «شىء مرعب وصراع مرهق مثل نوبة طويلة من نوبات مرض مؤلم»، لكن الروايات «اللايت» صارت تطوقنا من كل ناحية، مصحوبة بتصريحات عن الرواية الخفيفة على الذهن والمعدة، سواء أكانت «أم شبت» أو غيرها، ويدخل فى تلك الاستهانة أيضًا إسقاط العلاقة بين الأدب ودوره الاجتماعى، لأنه عندما تسقط تلك العلاقة يمكن للأدب بسهولة أن يصبح شيئًا مسليًا لا أكثر، وفى هذه الحال لن تستغرق كتابته سوى خمسة أيام بالفعل.