رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى المشهد التالى للصواريخ الإيرانية


هناك مشهد قبلى سبق إطلاق الصواريخ الإيرانية على القواعد العسكرية التى توجد فيها قوات أمريكية بالعراق، وقع فى نهار يوم الإطلاق بمدينة «كرمان» جنوب شرق إيران مسقط رأس قاسم سليمانى، حيث سقط «٥٠ قتيلًا» ووقع ما يزيد على «٢٠٠ إصابة» لجمهور المشيعين فى الجنازة الشعبية، التى نظمت بحضور كل أركان الدولة الإيرانية. الحادث المأساوى مؤكد أنه حدث بسبب التدافع والزحام الكبير الضاغط، هكذا تابعه المراقبون، كون الجنازة كانت مذاعة على الهواء مباشرة، ودلالة المشهد على مسرح الأحداث أنه يلخص الوضع بصورة دقيقة لما تواجهه طهران فى مقابل عملية اغتيال سليمانى.
فتلك الجماهير بالداخل الإيرانى، التى تتمتع بهذا القدر العالى والمنفلت من الهوس والتعصب، وجد أصحاب القرار فى طهران وأماكن الارتباط، خاصة فى العراق ولبنان، أن هؤلاء هم من يشكلون لها أزمة حقيقية تدفعها إلى البحث السريع عن حل فى إمكانية صياغة رد الفعل. فالسلطة أمام هؤلاء الذين جرى تشكيلهم وشحنهم طوال سنوات فى مأزق، يتجاوز ضبط النفس أو حسابات ردة الفعل المقيدة التى تبحث عن مخارج شبه آمنة، لا تصل بها إلى نقطة اللا عودة.
لذلك جاء مشهد الصواريخ الإيرانية، التى أطلقت تجاه القواعد الأمريكية، فى هذا الإطار الذى ظل محل جدل منذ مصرع سليمانى والمهندس، حيث كانت التساؤلات مثارة عن طبيعة الرد، وقبله مَن الذى سيقوم به وينفذه. أجابت إيران عن الجزء الثانى بوضوح يعفيها جزئيًا من اتهامات التخاذل، فاختارت أن يكون الرد من إيران رسميًا ومن أراضيها، واستبعاد الوكلاء والأذرع التابعة عن القيام بذلك الرد الأولى المباشر. والذى سيظل بالطبع محل جدل لفترة ليست بالقصيرة، فهناك بالداخل الأمريكى من يؤكد أن الجيش الأمريكى كان على علم مسبق بالهجوم الصاروخى، كما ذكر بعد ساعات من الهجوم مسئول عسكرى فى «البنتاجون» أن الجيش الأمريكى كان لديه تحذير مبكر بما يكفى من الهجوم الإيرانى. وهذا فيما يخص «١٠ صواريخ» سقطت على قاعدة «عين الأسد»، فيما ضرب صاروخ آخر قاعدة «مطار أربيل»، بينما أخفقت أربعة صواريخ أخرى فى الوصول إلى أهدافها. ستظل هذه العملية مثيرة لتساؤلات القدرة الفعلية الإيرانية، بالنظر إلى عدم وقوع خسائر تذكر فى أىٍّ من المناطق التى سقطت فيها، وهو مرتبط بنظير على الجانب المقابل يفتش عن سبب تقييد عمل منظومات «الباتريوت» الأمريكية الدفاعية، هل سجل هذا إخفاقًا لها أم جاء التقييد بفعل قرار تم اتخاذه بشكل مسبق، عبر التأكد من أن وصول الصواريخ لن يكون مؤثرًا بالحد الذى يستوجب اصطيادها بالجو، أو أبعد من ذلك فى أن يكون إفساح المجال لها من باب توفير مساحة محسوبة للتنفيس متفق عليها. ربما المراقبون يذهبون إلى الاحتمال الأخير فى الساعات الأولى من المشهد، لكن الأمر لن يكون له مثل تلك الإجابات الموجزة، عند وضع كلا الداخلين الأمريكى والإيرانى بعد أيام فى معطيات المشهد وتساؤلاته.
يذهب الرئيس الإيرانى، حسن روحانى، إلى أن رد بلاده الأخير على مقتل قاسم سليمانى فى غارة أمريكية قبل أيام، هو «طرد جميع القوات الأمريكية من المنطقة»، جاء هذا بعد ساعات من الهجمات الصاروخية فجر الأربعاء، وهو سقف مرتفع كثيرًا بالطبع، ولا يجوز تفهم أن هناك خطة إيرانية حقيقية معدة أو أعدت لهذا الغرض، وما جرى بداخل العراق قبيل إطلاق الصواريخ، عندما ضغطت طهران بقوة على حلفائها بالبرلمان العراقى لصناعة حالة من الجدل بهذا الخصوص، ربما هو أقصى ما يمكن أن تقوم به إيران فى هذا الاتجاه. التشديد على أن هذا الطرد المقصود به «المنطقة»، ولن يقف عند حد العراق وحدها، هو أمر ليس فقط يتجاوز قدرات إيران وحلفائها وأذرعها المسلحة، لكن الواقع يقول فى ذات الوقت إنه خارج الحسابات الاستراتيجية لذات «المنطقة»، التى يذكرها القادة الإيرانيون ومعهم «المرشد خامنئى» فى تصريحاتهم مؤخرًا أيضًا. وهذا قد يعكس خللًا فى رؤى وتقديرات طهران، قبل أن تكون تصريحات للاستهلاك المحلى الداخلى، المقصود بها شد أُزر الجماهير وشحذ همم الأذرع التى امتدت وتوغلت ربما بأكبر مما قدر لها.
مصالح المنطقة ومعادلاتها الاستراتيجية، لا تزال تدور فى فلك الولايات المتحدة الأمريكية، مثلها مثل مناطق عديدة من العالم، وهذا لا يخصم من هذه المنطقة كما لا ينتقص من الآخرين، طالما ظلت الولايات المتحدة هى الدولة الرئيسية والأولى على المستوى الدولى. والإشارة إلى اختلال الرؤية الإيرانية بهذا الخصوص، كونها لا تريد الانصياع أو الاقتناع بأنها صانعة رئيسية للفوضى والتهديد، والنموذج الماثل فى ثلاث دول عربية سوريا ولبنان واليمن، غير العراق الذى مزقه التدخل الإيرانى منذ تسللت فى ظل الاحتلال الأمريكى عام ٢٠٠٣، جميعها وقعت بها اضطرابات عميقة أصعب من أن يجرى ترميمها قريبًا. وبذكر عام ٢٠٠٣ وقبله ٢٠٠١، تظل إيران وحلفاؤها يضربون على هاذين العامين ستائر سميكة، لإخفاء الأدوار الرئيسية التى لعبتها طهران وأجهزتها، فى مساعدة الولايات المتحدة والجيش الأمريكى بتمكينه من الداخل الأفغانى والعراقى بالتتابع. وهى مهام قذرة ومعلومة ولم تعد سرًا ممتدًا، فقد خرجت إلى النور بتفاصيل تجعل كثيرًا من المطلعين لا يريدون تصديق أنه من الممكن أن يكون هناك صراع جدى بين الدولتين، أو افتراض أنهما لا يمكنهما الوصول إلى تسوية واتفاق.
اليوم ستكون هناك دوائر اضطراب لا شك فى ذلك، وستسعى طهران بجهدها كله لإثارة قدر أكبر من الفوضى، وإثبات القدرة على امتلاكها أوراقًا ثمينة أو موجعة للمساومة. لكنها تظل أمام استحقاق وجودى لمشروعها بـ«المنطقة» التى تتحدث عنها، فقد كانت الشرارة التى أطلقت هذا الفصل الأخير من التصعيد هى خروج جماهير دولتين رئيسيتين من دوائر نفوذها، ترفض بشكل مطلق معادلة التمدد الإيرانى واستطالة قبضتها على مقدراتهما. لذلك ربما هى اليوم فى أشد الاحتياج لتمديد هذا الذى يجرى اليوم مع الولايات المتحدة، وستظل عازمة على إذكاء اشتعاله للالتفاف والمناورة حول الأزمة العميقة لمشروعها.