رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحبائى المسيحيين كل عام وأنتم طيبون



«مَنْ لا يركض إلى فتنة العشق يمشى طريقًا لا شىء فيه حى، ومن المحبةِ تصبح كل المرارات حلوة، ومن المحبة يصبح كل النُّحاسِ ذَهَبًا، ومن المحبةِ تصبح كل الآلام شافية.. يسلبنى العشق نومى، والعشق سالب للنوم، والعشق لا يشترى الروح والعقل بنصف حبة شعير».. جلال الدين الرومى عالم تعامل مع جميع الديانات على صعيد واحد.. «تعال تعال لا يهمُّ من أنت ولنتحدث عن الحبيب».
فى يوم الأحد الموافق ٧ يناير ٢٠٠٨ كتب قداسة البابا شنودة الثالث، رحمه الله، بمناسبة عيد الميلاد المجيد: لقد جاء المسيح ينشر الحُب، حيثما كان يتحرَّك، كان الحُب يتحرَّك، وأينما كان يقيم، كان الحُب يقيم، عرفه الجميع مُحبًّا، ومُحبًّا للجميع، وكان يقول لتلاميذه: «وصية جديدة أنا أعطيكم: أن تحبوا بعضكم بعضًا كما أحببتكم.. بهذا يعرف الجميع أنكم تلاميذى، إن كان لكم حُبٌّ بعضًا لِبَعضٍ» (يو ١٣: ٣٤، ٣٥)، تُرى لماذا اعتبر هذا الحب وصية جديدة؟ أليس لأنه يطلب لهم حُبًا من نوع خاص له عمقه، إنه الحُب الباذل مثل حُبه هو الذى قال عنه: «ليس لأحدٍ حُبٌّ أعظم من هذا: أنْ يَضعَ أحدٌ نَفْسَهُ لأجل أحِبَّائه» (يو ١٥: ١٣).
ولم يكن الحُب لتلاميذه فقط، بل هى وصية للعالم كله، فلمَّا سألوه: ما هى الوصية العُظمى فى الناموس (أى الشريعة)؟ أجاب: «تُحِبُّ الربَّ إلهَكَ من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، هذه هى الوصية الأولى والعُظمى، والثانية مثلها: تُحِبُّ قريبك كنفسِكَ، بهاتين الوصيَّتين يتعلَّقُ الناموس كله والأنبياء» (مت ٢٢: ٣٤-٤٠)، وكلمة «قريبك»، هنا، تعنى جميع البشر، لأننا كلنا أقرباء: أبناء أب واحد هو آدم، وأم واحدة هى حواء، وطبيعى إن كان كل منا يحب جميع الناس فلن يسرق أحدًا، ولا يقتل أحدًا، ولا يسئ إلى أحد، ولا يُدنِّس عفة أحد، وإن كان يحب اللَّه فلن يعصاه فى شىء، ولا يكسر شيئًا من وصاياه، وبهذا يكون كلام السيد المسيح عن محبة اللَّه والقريب قد شمل كل نصوص الشريعة وكل وصايا الأنبياء.
والمحبة التى نشرها السيد المسيح تشمل محبة الأعداء أيضًا، فهو الذى قال: «أحِبُّوا أعداءكم، بارِكوا لاعِنيكم، أحسِنوا إلى مُبْغِضِيكُم، وصلُّوا لأجل الذين يُسيئون إليكم ويطردونكم» (مت ٥: ٤٤)، كما أنَّ اللَّه المُحب، هو أيضًا «يشرق بشمسه على الأشرار والصالحين، ويمطر على الأبرار والظالمين» (مت ٥: ٤٥).
كان ينشر الحُب الذى ترتبط فيه محبة اللَّه بمحبة الإنسان، كما يرتبط الحب بالإيمان وبالاحتمال، وهكذا تقول لنا المسيحية: «مَن لا يحب أخاه الذى يبصره، كيف يقدر أن يحب اللَّه الذى لم يبصره» (١يو ٤: ٢٠)، على أنَّ المحبة للإخوة ينبغى أن تكون محبة عملية، وليست مُجرَّد كلام، فهنا تعلمنا المسيحية «لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق» (١يو ٣: ١٨)، وهكذا توصينا «بالإيمان العامل بالمحبة» (غلا ٥: ٦)، فكل عمل خالٍ من المحبة، لا يقبله اللَّه.
المسيحية تُقدِّم لنا اللَّه المُحب، الذى أحبَّنا قبل أن نوجد، ومن أجل هذا الحُب أوجدنا، وبالحُب منحنا البركة والرعاية والمواهب، إنه إلهنا الطيب الذى قال: «أنا أرعى غنمى وأربضها، وأطلب الضال، وأسترد المطرود، وأعصب الجريح وأجبر الكسير» (حز ٣٤: ١٥، ١٦)، وهو الذى يعطينا دون أن نطلب، ويعطينا فوق ما نطلب، له المجد فى محبته غير المحدودة.
هذا وقد قال تعالى فى سورة الحجرات «آية ١٣»: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ»، هذه الآية احتوت على مرتكزات العلاقة بين البشر على النحو التالى:
- إن القرآن الكريم هو خطاب إلى الناس كافة «يَا أَيُّهَا النَّاسُ» من دون أن يتحيز إلى أمة بعينها.
- التأكيد على وحدة الأصل الإنسانى «إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى»، فالإنسانية بكل تنوعاتها العرقية والقومية اللغوية واللسانية، الدينية والمذهبية، وبكل تصنيفاتها الأخرى إنما ترجع إلى أصل واحد، ويجب على الإنسانية أن تدرك هذه الحقيقة وتحكّمها بوصفها مبدأ فى نظرة كل إنسان إلى أى إنسان آخر، فالناس يجب أن ينظروا إلى أنفسهم ويتعاملوا مع بعضهم البعض بوصفهم أسرة إنسانية واحدة على هذه الأرض.
- إن التنوُّع والتعدُّد فى الاجتماع الإنسانى حقيقة موضوعية يؤكدها القرآن الكريم: «وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ»، فالله تعالى بسط الأرض بهذه المساحة الواسعة لينتشر الناس فيها ويعمروها، وقد ارتضى الناس لأنفسهم هذا الانتشار بين ربوع الأرض على اختلاف ظروفها وطبيعتها، والتى تنعكس حتمًا على طبائع الناس، كما أنه سبحانه منح الإنسان حرية الاختيار بين الأفكار والمعتقدات وغيرها، وهذا يؤدى حتمًا إلى التنوع.
- وقد ربطت الآية بين وحدة الأصل الإنسانى وبين التنوُّع الإنسانى، وهذا الربط يُفهم منه أن وحدة الأصل الإنسانى لا تعنى إلغاء التنوُّع بين الناس، الذى يقضى بأن يعيشوا شعوبًا وقبائل، ومن بلاغة القرآن تقديم وحدة الأصل على قاعدة التنوُّع لكى يكون التنوُّع متفرِّعًا عن الأصل، كما أن استخدام لفظ «جَعَلْنَاكُمْ» يؤكد أن هذا التنوُّع هو مراد الله بمعنى أنه قدّر لهم ذلك برحمته وعلمه، وبالتالى من يرفض هذا التنوُّع كأنه يرفض قدر الله.
- ويؤسس القرآن الكريم مبدأ التعارف بين الناس «لِتَعَارَفُوا»، وهذا الاختيار فى الآية إنما يلفت إلى فاعلية مفهوم التعارف فى تحقيق التعايش بين الناس وإعمار الأرض، فمن دون أن يكون هناك تعارف بين الناس لن يكون هناك حوار ولا تعاون، والتعارف هو الذى يحدد مستويات الحوار والتعاون وأنماطهما واتجاهاتهما، كما أن التعارف له دور وقائى فى إمكانية إزالة مسبِّبات النِّزاع والصدام بين الناس، والتعارف هنا من أبعاده أن يتعرف كل إنسان على مقدسات وأعراف وقوانين الإنسان الآخر، إلى جانب معرفة الظروف والتحديات التى تحيط به.
- ولم تلغِ الآية مبدأ التفاضل بين الناس وبين الشعوب والقبائل «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»، فهو يعبّر عن واقع موضوعى لا يتعارض مع مبدأ العدل والمساواة، الذى حاول القرآن تغييره هو نوعية قيم التفاضل، بتغيير هذه القيم من قيم التفاخر بالأنساب والأديان والقوم والقبيلة والعشيرة والعرق، إلى قيم تربط الأمم والحضارات بالقيم الإنسانية العليا، وهو المقصود من لفظ: «أتقاكم» الذى يرمز إلى منظومة القيم والأخلاق.