رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لماذا يقال لـ«إسماعيل» يا أبوالسباع؟


بمناسبة ١٨ ديسمبر اليوم الذى يحتفل فيه العالم سنويًا باللغة العربية منذ ١٩٧٣ أسأل: لماذا نقول لإسماعيل.. يا أبوالسباع؟، ولسؤالى هذا علاقة وثيقة بيوم أو أيام اللغة العربية. وراء تدليل اسم إسماعيل بعبارة «أبوالسباع» قصة تعود إلى عام ١٨٩٦ حين شرع الخديو إسماعيل فى إنشاء كوبرى قصر النيل لربط ميدان التحرير بضفة النيل الغربية، وحينذاك طلب الخديو من المثّال الفرنسى الشهير هنرى جاكمار أن يصنع له أربعة تماثيل لسباع- أى أسود- واشتهر الكوبرى فى أول الأمر بأنه كوبرى إسماعيل، ونظرًا لوجود السباع فى مدخله وفى نهايته كان الناس يقولون عن الخديو إسماعيل: «أبوالسباع»، وانتقل التعبير إلى كل من كان اسمه إسماعيل.
عندنا فى مصر أيضًا، ولا أدرى الحال فى الدول العربية الأخرى، نقول لكل مصطفى «درش»، والسبب أن السلطان العثمانى مصطفى الأول- الخامس عشر فى حكم الدولة العثمانية- كان مهووسًا والتحق بطريقة صوفية كان يطلق على الفرد منها كلمة درويش، وقال عنه شيخ الإسلام يحيى أفندى: «السلطان مصطفى مجذوب لله، وهو سلطان درويش»، وحرفت كلمة درويش التركية فى مصر إلى درش من باب الاستسهال.
والآن هل لهذه الحكايات الطريفة من مغزى أبعد من الطرافة؟ نعم لها مغزى يتصل بعلاقتنا باللغة، وبالبحث فيها، وفى جذورها، وفى نشأة الكلمات وتطورها، واختلاف دلالتها مع الوقت. ومن حكاية «أبوالسباع»، و«درش» يتضح لنا أن اللغة ليست مجرد كلمات نتوسل بها للتعبير أو للتواصل مع الآخرين، لكنها تاريخ اجتماعى وسياسى. انظر مثلًا كلمة شائعة فى مصر هى «زربون»، ودقق فيما نعنيه حين نقول «فلان زربون»، وستجد أن الغالبية العظمى تفسر الكلمة بمعنى العصبية، أى أن فلانًا عصبى، نرفز كما يقال.
لكن ذلك ليس تفسيرًا دقيقًا لمعنى الكلمة، ولن تعرف معناها إلا بالعودة إلى أصلها. وقد كان «الزربون» حذاء ضيقًا يرتديه الفلاحون المصريون أيام المماليك أثناء العمل، حذاء خانق يمسك القدم والساق بشكل محكم، و«زربون» إذن ليست بمعنى «عصبى»، لكنها تعنى الشخص المخنوق المضغوط، الذى قد ينفجر فى أى لحظة، لكن الانفجارات ليست صفة ثابتة فيه، أما العصبية فهى سمة مستمرة ملازمة للإنسان.
وقد قال لى الروائى الراحل إدوار الخراط ذات مرة ونحن نتحدث عن اللغة، إنه يقرأ فى المعاجم اللغوية العربية كل يوم صفحتين، كما نقرأ نحن الروايات والقصص. واهتمامنا باللغة سيقودنا إلى اكتشاف صلة التفاعل الحية بين العامية والفصحى، وإلى أن الكلمة الشائعة بين الشباب الآن فى إشارة إلى البنت وهى كلمة «مزة» هى كلمة فصيحة، إذ يقال فى المعاجم: «المز والمزة» «اللذيذ الطعم»، ويقال: مز الشىء استحسنه. وكلمة شائعة جدًا عندنا هى «سبهللة» تقال فى سياق: يظن أن الموضوع سبهللة! بمعنى يظن أن المسألة بالمجان ودون تعب، وهذه الكلمة أيضًا فصحى سليمة، وهناك حديث شريف يقول: «لا يجيئن أحدكم يوم القيامة سبهللًا»، أى فارغ اليدين لم يتعب فى دنياه. وانظر أيضًا كلمة نستخدمها يوميًا هى «حتة»، أعطنى حتة بقلاوة مثلًا، والكلمة فصحى لكن بفتح الحاء، ونقول وهذا شائع جدًا: «فلان أعطى فلانًا زنبة»، وحتى كلمة زنبة هذه فصيحة، والزنبة فى معجم لسان العرب هى القرصة، اللدغة.
القصد من حديثى هذا أن علينا أن نحب لغتنا، وأن نقرأ فيها وعنها، وأن ندرك أن اللغة ليست فقط أداة تواصل وتعبير، لكنها تاريخ نقرأ فيه حياتنا وتطورها، وأن الاحتفال الحقيقى بيوم اللغة العربية هو أن نوليها نحن أبناءها المزيد من الاهتمام والفحص والقراءة، وحين نتمنى أن يهتم الجميع باللغة، فليس ذلك لأنها لغة جميلة أو غير جميلة، فكل لغات العالم جميلة، ولا توجد لغة تحدث بها شعب عاش طويلًا إلا وعكف على جعلها لغة موسيقية، حتى وإن بدت لنا موسيقاها غريبة عنا، لكننا نتمنى الاهتمام باللغة العربية لأنها لغتنا، ولأن علينا إذا أردنا أن نتقدم ألا نحاول المساس بوسائل التفاهم القائمة تاريخيًا، علينا فقط أن نطور ما لدينا ونمضى به إلى الأمام.