رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد فريد.. تاريخ الدولة العليّة



إن النظرة المثالية للدولة العثمانية «رمز قوة الإسلام ومجده» لم تكن فقط وليدة العقود الأخيرة، ولكنها تتردد فى لحظات الترقب وانتظار الجديد، إذ نجد هذه النظرة عند أحد كبار الزعماء الوطنيين فى مصر فى مطلع القرن العشرين، وهو «محمد فريد»، خاصةً مع بدايات الانهيار السريع للدولة العثمانية، ومشروع الخلاص الأخير «الجامعة الإسلامية» على يد السلطان عبدالحميد، وارتباط الحزب الوطنى فى مصر بالانتماء إلى الدولة العثمانية، فى محاولة لنزع الشرعية عن الاحتلال البريطانى فى مصر.
يشير محمد فريد إلى الإهمال الذى وجهه المؤرخون العرب إلى تاريخ الدولة العثمانية، أو «فرع الخلافة التركية» مقارنةً باهتمامهم بتاريخ الدولة العربية الإسلامية «فرع الخلافة العربية»، فيقول:
«تاريخ هذه الأمة الفاتحة الشريفة قد ينحصر فى التوسع فى فرعين رئيسيين: الخلافة العربية والخلافة التركية، وقد طرق الفرع الأول كل مؤرخى الإسلام، أما الفرع الثانى فكاد القلم العربى أن يكون منه أبعد الأقلام».
ويوضح فريد منذ البداية الهدف الأساسى لكتابه «تاريخ الدولة العلية العثمانية» وهو إبراز الرسالة الإلهية للدولة العثمانية فى نجدة الأمة الإسلامية فيقول:
«لكن العناية الصمدانية تداركتهم بلم الشعث ورم الرث ورتق الفتق ورقع الخرق، فأضاءت الأفق الإسلامى بظهور النور العثمانى وأمدته بالنصر اللدنى والعون الربانى، فقامت الدولة العلية بحياطة هذا الدين، وحماية الشرقيين، ودعت إلى الخير، وأمرت بالمعروف ونهت عن المنكر، فكانت من المفلحين».
إن هذا المدخل الأسطورى الذى يقدم به فريد للدولة العثمانية لا يمت فى الحقيقة بصلةٍ لنشأة الدولة العثمانية وتطورها الطبيعى التاريخى، ولكن يمت بصلةٍ للظروف التاريخية التى يكتب فريد فى إطارها تاريخه «تاريخ الدولة العليّة»، فالدولة العليّة فى زمن فريد لم تعد فى الحقيقة «العليّة» وإنما أصبحت «رجل أوروبا المريض» الذى ينتظر الجميع موته، ولكن المشكلة الحقيقية بالنسبة لها- دول أوروبا- هى تقسيم تركة الدولة «أملاكها» دون الإخلال بمبدأ توازن القوى، هذا المبدأ الذى ساد أوروبا قبل الحرب العالمية الأولى، وأطال فى الحقيقة من عمر الدولة العثمانية.
من هنا يتحدث فريد ليس بلسان المصرى أو حتى العربى، وإنما يركز على الانتماء الإسلامى أو الشرقى، بحكم طبيعة توجه الحزب الوطنى، آنذاك، يرى فريد:
«أى شرقى، مسلمًا كان أو غير مسلم، لا تهزه النخوة القومية والحمية الملية إلى المحافظة على بقائها- الدولة العثمانية- سعيًا فى بقاء نفسه وتأييدها بكل ما فى وسعه».
وفى رأينا أن ما كتبه محمد فريد لم يكن فى الحقيقة تاريخًا للدولة العثمانية، وإنما رسالة أيديولوجية من مفكر شرقى مسلم رأى السقوط الوشيك للدولة فأراد أن يستوحى الماضى لعله يجدى نفعًا فى الحاضر المرير، كما لا ننكر الارتباط المهم لمحمد فريد، سواء بالخديو عباس حلمى الثانى، أو السلطان عبدالحميد الثانى، ومن هنا كان إهداء فريد تاريخه إلى الأخير، قائلًا:
«وقد قصدت بهذه الخدمة أن أقوم بفرض يجب على كل إنسان أداؤه لعرش الخلافة العظمى وملجأ الإسلام فى هذا الزمان، مولانا أمير المؤمنين السلطان الغازى عبدالحميد الثانى، أمد الله فى عمره وأيده بنصره».
كما يحرص محمد فريد على تأكيد تبعية مصر للدولة العثمانية، وأيضًا إهداء الكتاب إلى خديو مصر عباس حلمى الثانى، فيقول فريد:
«إنى أبتهل إلى الله بأن يؤكد العروة الوثقى بين جلالته- السلطان عبدالحميد- وولى أمرنا، صاحب الحزم والتدبير مولانا الجليل النبيل صاحب الرأى الأصيل والمجد الأثيل رب الحزم والعزم وخديونا الأفخم عباس باشا حلمى الثانى، حفظه الله وأبقاه إعلاءً للوطن وإبقاءً لجامعة الملة، آمين».
وهنا يظهر التداخل الشديد بين مفهوم «الوطن» و«الوطنية» ومفهوم «الدين» و«الجامعة الإسلامية»، وهو التداخل الذى عاشته مصر قبل ثورة ١٩١٩، ثم الاستقلال عن الدولة العثمانية بعد ذلك.
ولكن على أى حال بقى تأثير محمد فريد والحزب الوطنى والنزعة الإسلامية العثمانية شديدًا فى مصر، لا سيما بين أبناء الطبقة الشعبية وأيضًا الطبقة الوسطى الصغيرة، ربما حتى نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة الدولة العثمانية، وانهيار الحلم بالتخلص من الإنجليز على أيدى الدولة العثمانية وحليفتها ألمانيا، ويعبّر نجيب محفوظ فى رائعته «الثلاثية» عن خيبة أمل هذا التيار بعد فشل دول الوسط فى الحرب على لسان فهمى عبدالجواد- أحد شخصيات روايته طالب الحقوق الذى سيصبح بعد ذلك أحد شهداء ثورة ١٩١٩- قائلًا:
«غُلب الألمان! من كان يتصور هذا؟ لا أمل بعد اليوم فى أن يعود عباس أو محمد فريد، كذلك آمال الخلافة قد ضاعت، لا يزال نجم الإنجليز فى صعود ونجمنا فى أفول، فله الأمر».