رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أردوغان أول من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل




عادت إسرائيل عدوًا، وعادت فلسطين شعارًا لأردوغان.. سلط أبواقه الإعلامية للتعرض بالسوء لدول الخليج العربى، بعد خلو بيان اجتماع دول مجلس التعاون الخليجى الأخير بالرياض من ذكر القضية الفلسطينية.. ووقف فى مؤتمر منظمة المؤتمر الإسلامى قائلًا: «نحن لا نقبل التزام الصمت أمام إرهاب الدولة الذى تورطت فيه إسرائيل فى فلسطين. يجب أن يعلم الجميع أننا نعارض أى شخص يقف إلى جانب إسرائيل».
نسى أردوغان أن التاريخ لا يكذب، وأن الأدعياء فقط هم الذين يكذبون ويزورون الحقائق.. إنهم يعكسون الوقائع، مع أنه لا يفصلنا عنها زمن طويل.. فإن وقف اليوم رئيس حزب حاكم وصاحب فكر عنصرى وتغنى بأجداده، فلن تتبدل الأحداث المُثبتة فى سجلات الكتب وذاكرة البشر.. وقد تأكد أن لدى أردوغان فلسفة خاصة بشأن فلسطين: «أن تتكلّم عنها بما يريده جمهورك، وأن تفعل ما تقتضيه مصالحك وارتباطاتك. ولا داعى للقلق بشأن أن يُخالف فعلك قولك».. ألم يُضيّع سلاطين الخلافة العثمانية فلسطين، بعد أن تركوها فريسة للعصابات الصهيونية إرضاءً للدول الغربية، لتسقط ورقة التوت كاشفة عن خيانة وعمالة الدولة العثمانية التى احتلت البلدان العربية باسم الدين؟.. والآن جاء الدور على سليل هذه الدولة، ليكمل مسيرة الأتراك فى تدمير فلسطين، واستغلال قضيتها لتحقيق أطماعه السياسية فى المنطقة العربية، عبر خطاب عاطفى يدغدغ مشاعر بسطاء المسلمين حول العالم، ويعكس نفعيته ورغبته الاستعمارية. لقد دأب أردوغان على استغلال كل ما يلامس تطلعات شعوب المنطقة، ومن ثم المُتاجرة بها والانقلاب عليها، فاستغل ما يسمى «الربيع العربى» وحوله بدعمه التنظيمات الإرهابية إلى خريف عربى أتى بالويلات والحروب على المنطقة، وتاجر بالخلافات الطائفية بين السنة والشيعة، وكرس الحقد فى العالم الإسلامى، وها هو الآن يستغل القضية الفلسطينية، رغم أنه أول من اعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل.. لماذا؟.. لأن الكارت الذى كان يلعب به وحزبه فى برنامجهم الانتخابى، على مدار سنوات، وهو الازدهار الاقتصادى التركى، بات محروقًا، فلم يعد هناك اقتصاد، كما ضاع حلم الانضمام للاتحاد الأوروبى، نتيجة سياساته التى تتنافى مع حقوق الإنسان. لا يتوقف الرئيس التركى عن الحديث أمام الكاميرات عن الفلسطينيين وحقوقهم، وعن إسرائيل التى تقتلهم وتعتدى على حقوقهم، ولا يزال العالم يتذكر مشهده وهو ينسحب من إحدى جلسات منتدى دافوس، بعد أن وجه عبارات قاسية لرئيس الوزراء الإسرائيلى الأسبق، شيمون بيريز، دون إدراك أن هذا المشهد كان متوازيًا مع مشهد آخر يتابعه العالم كله، وهو تنامى العلاقات الاقتصادية والعسكرية مع دولة الاحتلال، علاقات كانت وما زالت أكثر من ممتازة، حتى إن سماء تركيا مفتوحة دائمًا للطيارين الإسرائيليين للتدريب، بل إن نواب حزبه فى البرلمان كانوا وراء إسقاط مشروع قرار طرحته المعارضة، بإلغاء جميع الاتفاقيات المُبرمة مع إسرائيل، مع أن غرض المشروع يتماشى مع شعاراته بشأن قضية فلسطين.. فى حين لم يتجاوز الدعم التركى للقضية الفلسطينية التصريحات «العنترية» التى يطلقها أردوغان بين الحين والآخر، بينما لم تشهد الأرض الفلسطينية دعمًا تركيًا حقيقيًا، وعندما قدمته كان حصريًا لحركة حماس، ولأهداف سياسية محددة، وكان الأغرب أنها قدمته من الخزانة القطرية.
لا يخفى على المتابعين العلاقات التركية الإسرائيلية حجم التنسيق الأمنى والمخابراتى والعسكرى بين البلدين، وهو ما يتجسد فى المناورات والتدريبات العسكرية المشتركة بين البلدين، واعتبار دولة الاحتلال المُورِد الأول للسلاح إلى أنقرة.. ولذا فإن القضية الفلسطينية لا تمثل أهمية بالنسبة لأردوغان ولا لحزبه، وتصريحاته المعلنة ضد إسرائيل تكون لغرض سياسى آخر، وهو حشد أصوات الناخبين فى الانتخابات.. وهنا تقول صحيفة «ليمانيتى» الفرنسية إن «كل مرة يندد فيها أردوغان بالعدوان الإسرائيلى على فلسطين، يتزامن ذلك مع انتخابات رئاسية أو تشريعية.. لأنه يعلم أن التأثير على قطاع الشباب هو العامل الرئيسى فى حملته الانتخابية، وأن اللعب على وتر القضية الفلسطينية هو الورقة الرابحة فى الانتخابات».. مع أنه يبيع القضية فى كل يوم ألف مرة.
حينما كان أردوغان رئيسًا لوزراء تركيا زار إسرائيل، عام ٢٠٠٥، على رأس وفد كبير، وفور وصوله توجه إلى مقر الرئيس الإسرائيلى فى أراضى القدس التى تسيطر عليها إسرائيل، وزار نصب تخليد ضحايا محرقة اليهود فى الحرب العالمية الثانية.. وعندما التقى أرئيل شارون فى القدس رحب به الأخير، وقال: «مرحبًا بك فى القدس، مدينتنا المقدسة، عاصمة الشعب الإسرائيلى، وعاصمة دولة إسرائيل»، وابتسم أردوغان لشارون، ولم يبد ردة فعل، فى تأكيد موافقته حديث شارون، ذلك لأن تركيا تعد أول دولة إسلامية تعترف بإسرائيل عام ١٩٤٩، وسبق أن عقدتا اتفاقًا سريًا واستراتيجيًا، فى خمسينيات القرن الماضى، عُرف بـ«الميثاق الشبح»، ويتضمن تعاونًا عسكريًا واستخباريًا ودبلوماسيًا، وكانت بنوده الأساسية موجهة ضد العرب.. لماذا لا وقد اعتمدت تركيا طويلًا على اللوبى الإسرائيلى، لعرقلة إقرار أى تشريع يعترف بإبادة الأرمن؟.
عندما تخلى أردوغان عن أوجاع الفلسطينيين، وعن غضبه تجاه إسرائيل، بعد أن هاجمت قواتها سفينة مرمرة التى سعت لفك الحصار عن غزة، أعلن رئيس وزرائه عن انتهاء قطيعة السنوات الست، وتوصل الإسرائيليون والأتراك إلى تفاهم حول تطبيع العلاقات بينهما خيّب آمال الفلسطينيين، لأن أردوغان استبعد من شروط إعادة التطبيع رفع الحصار، والحق فى إقامة ميناء بحرى فلسطينى، واكتفى بإرسال معونات إنسانية تمر عبر الموانئ والمعابر الإسرائيلية لتفتيشها، بما يخدم شرعنة الحصار.. كما وافق على طرد قيادات حماس من تركيا.. وبذلك باع أردوغان الفلسطينيين لتحقيق مصالحه، وقد تم تذييل وثيقة التطبيع بهذه الجملة «تم هذا الاتفاق فى أنقرة والقدس»، أى أن تركيا اعترفت قبل ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل!.. ولعل أبرز موقف يعبر عن وجهة أنقرة تجاه القضية الفلسطينية، موقف أردوغان بعد فوز حركة حماس فى الانتخابات التشريعية بغزة عام ٢٠٠٦.. فقد أكد «أنه على الإخوة فى حماس أن يتركوا عاداتهم وتصرفاتهم فى الماضى للماضى، عليهم أن يدخلوا عالمًا جديدًا بنظرة جديدة، وقد أصبحوا عمليًا طرفًا فى الحكم.. وأن السلاح يجب أن يكون فقط فى أيادى القوات المسلحة لأى دولة».. وفى زيارة لوفد من الحركة إلى أنقرة، برئاسة خالد مشعل رئيس المكتب السياسى، فى العام نفسه تحدث أردوغان عن ضرورة التخلى عن الكفاح المسلح والاعتراف بدولة إسرائيل. كما بينت الإحصاءات تواصل نمو الميزان التجارى بين البلدين بعد سنوات الأزمة، فقد احتلت تركيا المرتبة السادسة على مستوى العالم، فى قائمة التصدير الإسرائيلية، بمبلغ وصل إلى أربعة مليارات دولار سنويًا.
ما يفعله أردوغان حيال فلسطين والأطماع الإسرائيلية اليوم يُوضِّح ما فعله السلطان عبدالحميد حيالهما قبل أكثر من مائة عام.. ثمة خيط يجمع موقف الرجلين من القضية، ذلك أن ظاهر الأمور يختلف عن باطنها، والقول بمُناهضة الصهيونية، وحدوث بعض التوتّرات الثنائية يخالفه واقع التعاون، بل التحالف المستمر بلا انقطاع بين تركيا وإسرائيل.. وسوف تبقى قضية فلسطين عنوانًا مُربحًا للرجل، طالما أن أقصى ما يفعله هو الكلام، و«كَبُر مُقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» (الصف: ٢).
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.