رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نوبة صحيان لكل إنسان




شدتنا بعض كلمات فى قالب شعرى وبلغة غير لغتنا على النحو التالى:
عندما تقطع آخر شجرة، وعندما يجف آخر الأنهار، وعندما تدخل آخر سمكة فى شبكة الصياد، حينئذ سوف يدرك الإنسان أنه لن يستطيع أن يأكل المال.
وعندئذ سوف تتغير المناظر والمظاهر حتى يفقد الجمال جماله، وتتغير الأحوال، ولكن دون جدوى، فالقطار قد مضى ويعجز المسافر مهما بلغت قوته على اللحاق بقطار قد عبر، وعندئذ فقط سيستيقظ النائم من غفلته ليعرف قيمة الجار ومعنى كلمة صديق، سيتذكر قصة ذلك الرجل الذى باغته صديق حميم فى ساعة متأخرة من الليل، وقد جاءه هذا الصديق وهو فى غاية الجوع وطلب من صديقه كسرة خبز ولم يكن فى البيت خبز حتى لجأ إلى جاره ليطلب منه بعض الأرغفة لضيف عزيز جاءه جائعًا، لكن الجار يرد عليه بأن زوجته وأولاده فى الفراش، ومن الصعوبة بمكان إيقاظهم حتى يلبى طلب هذا الجار، ولكن لأجل إلحاح جاره وإدراكه موقفه وحاجة ضيفه يقوم ويزعج الزوجة والأولاد حتى يفتح بابه ويقرض جاره عددًا من الأرغفة، كما طلب جاره.
ومن هذه القصة أعود لحالة نعيشها وهى قيمة الصداقة ومكانة الجار، كما كنا نعيشها ونتمنى اليوم عودتها. نسمع الغريب والعجيب ومن مسافات بعيدة جغرافيًا، ولكنها قريبة جدًا وفق مقاييس التواصل الحديثة، فالأخبار تنتقل عبر القارات فى لمح البصر وبضغطة خفيفة على تليفونك الذى تضعه فى جيبك لينقل لك الأحداث، صوتًا وصورة، وكأنك تعيش مع جارك القريب منك، لا بل قد انتقلت مسافات العلاقة من بيت إلى البيت المجاور ليصبح صديقك أو جارك معك فى غرفة نومك، توقظه من نومه بدقات جرس أشبه بالموسيقى إذا أردت، أو بصوت مرتفع يكفى ليقظة جارك الذى هو على مسافة سفر بآلاف الأميال لتشاركه الأحوال، وحتى الأهوال التى تفاجئنا جميعًا حين تكتشف أن الصديق لم يعد هو الصديق القديم الذى كان يشاركك رغيف الخبز، فضلًا عن وقوفه بجوارك فى أفراحك وفى أتراحك، تكتشف أن المسافات قد تباعدت والمشاعر قد تجمدت، وكل الظروف قد تغيرت، فاختفت الابتسامة وحلت محلها العبوسة والجفوة، ولكونك مغتربًا لم تعهد هذه المشاعر المتجمدة، وكأن المسافات التى تفصل بين الجار وجاره قد تباعدت، وهنا تدرك أن منظومة العلاقات والصداقات ومفهوم الجار الذى كنت تختاره قبل الدار، والذى اخترته بالفعل، قد تغير بعد أن تغيرت المواقع والمواقف ولم يعد للجوار قيمة، ولم تبقَ للصداقة مكان، فقد اختفت الابتسامة وحلت مكانها عبوسة الوجوه وجفوة المشاعر، فهل من وسيلة لترميم حائط الجوار وقد ارتفع الحائط لدرجة التصدع القريب إلى الانهيار، واختفت الابتسامة والتحية التى كانت بتعبيرنا القديم مصحوبة بالأحضان، تحولت إلى عكس كل ذلك، وتسأل نفسك: ما الذى تغير، البيت هو البيت والجار هو الصديق القديم حين كنا نتشارك الطعام والشراب، وأولادنا وأولاد جارنا كانوا كإخوة أشقاء، كل شىء بينهم كان مشتركًا، فكيف تجد اليوم وقد تغيرت المشاعر حتى فترت بل أصابتها البرودة، وارتفعت الحوائط الفاصلة والمانعة للجوار، كما كنا نعهده طول حياتنا، حتى لا ترى ولا تسمع ما كنت تشارك فيه وبه فى القديم، وهنا لا تملك غير الحسرة على الزمن القديم، ويداهمك السؤال: هل من الممكن أن تعود علاقاتنا كما كانت أو تقترب منها؟ وأما الرد على السؤال فهو عند قادة الأديان وحملة مشاعل الإنارة والتنوير إلى حضرات رجال الدين فى كل دين، أين مواعظ التلاحم وحسن الجوار وتقارب الديار؟
أين موائد الإفطار الرمضانى التى كانت تجمعنا ورحلات الأعياد التى كانت تضم كل أولادنا؟
وعودة إلى ما بدأت، مع تغير النغمة والأسلوب، لنقول تعالوا نعيد زراعة الأشجار التى قطعت حتى نجتمع تحت ظلالها معًا، دعونا ننقِ أنهار مياهنا حتى تعود المياه إلى مجاريها نقية دون تلوث حتى يرتوى منها الجميع معًا.
دعونا معًا نحمل شباك صيدنا لا للقضاء على الأسماك الصغيرة، بل لنتركها حتى تكبر معًا، وبالمناسبة فقد رأيت على ضفة شاطئ فى بلاد العم سام شبابًا يصطادون الأسماك ثم يطلقونها مرة أخرى حية لتلحق بإخوتها، إنهم فقط يصطادون هذه الأسماك لا للأكل، ولكن من أجل ممارسة الهواية، يتسابقون حولها لكنهم يطلقون سراح أسماكهم فور اصطيادها، وإن كنت لا أتوقع تطبيق هذه المشاهد فى بلاد العرب، رغم أن الفارق بين العرب والغرب نقطة واحدة فى لغتنا الجميلة، لكن لا ننسى أبدًا تلك المقولة التى بدأنا بها: لنحافظ على ما تبقى من أشجار وعلى ما لدينا من أنهار، ونترك الأسماك الصغيرة لتكبر حتى تنمو بها مواردنا ومقدراتنا، وليكن ما نهدمه هو الحوائط والجدران حتى ينمو من جديد التلاحم وحسن الجوار وتقارب الديار.