رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«إنتى أرض بور مش بتخلِّفى»



فى بداية الأسبوع الماضى قررت أن أكتب مقالًا بمناسبة الاحتفال باليوم العالمى لمناهضة العنف ضد المرأة، الذى يحتفل به العالم فى الخامس والعشرين من نوفمبر كل عام، والذى اعتمدته الأمم المتحدة عام ١٩٩٩ تكريمًا لذكرى ثلاث أخوات نشيطات واجهن وقاومن استبداد وظلم رئيس جمهورية الدومينيكان، فما كان من هذا الديكتاتور إلا أن أمر باغتيالهن عام ١٩٦٠.
ما إن بدأت فى كتابة المقال وإذ بالصحف اليومية تصدمنا يوم الأحد ٨ ديسمبر بحادثة بشعة مفجعة عن زوج أشعل النار فى زوجته بعد ثلاث سنوات من الزواج، لأنها لا تنجب وتم نقلها إلى المستشفى ولفظت أنفاسها الأخيرة، ولقيت ربها بعد١٣ يومًا. قال الزوج لها وهو يصب البنزين عليها: «إنتى أرض بور مش بتخلّفى عاوزانى أطلقك علشان تتجوزى غيرى، زهقت منك هولع فيكى وأتجوز على عفش شقتك».
وأحب يا سادة ويا سيدات قبل أن أكمل المقال أن أشرككم معى بالعودة بالذاكرة إلى الوراء عام ١٩٧٣، وكنت وقتها طالبة بكلية الصيدلة جامعة القاهرة ومتزوجة وأسكن فى إحدى حوارى حى بولاق الدكرور الذى كان مليئًا بأهالى الصعيد الذين جاءوا وبنوا بيوتًا سكنوا بها هم وعائلاتهم، وكانت الشوارع والحوارى ضيقة لدرجة أنك تستطيع أن تسمع ما يدور وراء حيطان الشقق، وكل السكان بالطبع يعرفون بعضهم. وفى يوم من الأيام كنت أقف أنا وزوجى بالبلكونة ندردش معًا، وإذ بسيدة المنزل الموجود أمامنا مباشرة «وهى سيدة مُسنة من سوهاج»، تطل علينا وتقول بصوت عالٍ موجهة الكلام لزوجى: «إنت أنيها ليه! دى أرض بور عاقر خسارة اللقمة فيها». أقسم إننى وقتها لم أفهم ما تعنيه بالكامل، ونظرت لها وأنا فى شدة الذهول، ولكن زوجى كان سريع البديهة، وقرر أن يفحمها برده قائلًا لها: «أصل العيب منى أنا مبخلّفش». صدقونى أنا لا يمكن أن أنسى ما حييت وجهها ونظرتها المذهولة المصدومة والقاسية ودخولها إلى حجرتها وغلق شيش البلكونة.
نظرنا إلى بعضنا وضحكنا معًا أنا وزوجى، لأننا كنا مقررين أن نؤجل الإنجاب حتى أنهى دراستى ذات الأعباء الثقيلة. أقول هذه الحكاية التى مر عليها ٤٦ عامًا دليلًا على تجذر العادات والتقاليد الخاصة بالخلفة وبالذات فى الأرياف فى بحرى والصعيد، التى لا تعترف نهائيًا من قِبل حماة الزوجة بأن عدم الإنجاب قد يكون بسبب الزوج الذى هو ابنها، وأن نوع المولود ذكرًا أو أنثى مسئول عنه الزوج. فالمسئولية دائمًا على المرأة التى يجب تطليقها أو الزواج عليها من أجل الإنجاب. لم أكن أتصور أن تصل الأزمة لحد جريمة القتل العمد!
تعالوا بنا نكمل حديثنا عن مناهضة العنف ضد المرأة، والذى يزداد فى السنوات الأخيرة محليًا ودوليًا، سواء العنف الأسرى أو المجتمعى فى أماكن الدراسة والعمل ووسائل المواصلات والطرق غير الآمنة، كل ذلك بجانب العنف الذى يقع على المرأة بسبب الحروب والنزاعات، وبالذات فى منطقتنا العربية، تلك الحروب التى أدت إلى نزوح الأسر ومعاناة المرأة والأطفال والمسنين فى المخيمات أو المجتمعات التى يلجأون إليها، وأضف إلى ذلك ما تعانيه المرأة الفلسطينية الصابرة الصامدة من جرائم الحرب والانتهاكات اليومية للكيان الصهيونى الغاصب من هدم المنازل وقتل النساء والأطفال وتعذيب الأسرى والأسيرات، وحجز جثامين الشهداء وعدم تسليمها لأهاليهم.
إن نسبة ضرب النساء فى فرنسا وبريطانيا وصلت لـ٧٨٪، ونسبة اغتصاب النساء فى فرنسا أعلى نسبة فى العالم. وإذا انتقلنا إلى مصر نجد أن ٤٦٪ من النساء «١٤- ٦٤ عامًا» تعرضن للعنف من شريك الحياة، و٢٧٪ تزوجن قبل بلوغ ١٨ عامًا «زواج القاصرات»، ونسبة الأمية ٣٠٪ بين النساء، هذا بجانب تسرب الفتيات من التعليم، و٨٧٪ من البنات تعرضن للختان، هذا غير العنف فى أماكن العمل الذى تعرضنا له فى مقال سابق، وطالبنا بسرعة تصديق مصر والدول العربية على اتفاقية «القضاء على العنف فى عالم العمل رقم ١٩٠» التى أصدرتها الأمم المتحدة فى يونيو ٢٠١٩.
وبمناسبة مناهضة العنف ضد المرأة تلقيت دعوة من السيدة الفاضلة عزة كامل رئيسة مؤسسة «وسائل الاتصال من أجل التنمية»، لحضور حفل توزيع جوائز وعرض أفلام الدورة الثالثة من مهرجان سينما الموبايل لمناهضة العنف ضد المرأة، وهى أفلام رائعة ومعبرة تعتبر وسيلة مهمة فى التوعية الثقافية تصل إلى عقل المشاهدين.
تناولت الأفلام الفائزة عدة قضايا مهمة لما تعانيه المرأة والفتيات من عنف أسرى من الختان وعدم استكمال التعليم والزواج المبكر فى سن الطفولة لرجل فى سن الأب، مما يعد صدمة تلازم الفتيات طيلة حياتهن، وتناولت أيضًا قضية التحرش اليومى فى الميكروباص، والطلاق بسبب خلفة البنات.
ويهمنى فى النهاية أن أُحيى الأفلام الفائزة وصانعيها، كل التحية للفيلم الحائز على الجائزة الذهبية «رسالة إلى والدى» للمخرج لؤى جلال من القاهرة، والفيلم الحائز على الجائزة الفضية «هالة والبنات» للمخرجة صفاء عاشور من القاهرة، والفيلم الثالث الحائز على البرونزية «فى السكة» لأميرة خليفة من أسوان، والتحية للأفلام الثلاثة التى فازت بالجوائز التشجيعية «الحلم الضائع» للمخرجة مريم حنا من الفيوم، وفيلم «حوارى» للمخرج ماجد ميشيل من المنيا، وفيلم «عضمة ناشفة» للمخرجة ريهان غريب من الإسكندرية.. كل التحية للمبدعين والمبدعات.