رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وداعًا «شعبولا».. عدو السامية الجميل



أصاب خبر وفاة الفنان الشعبى الجميل شعبان عبدالرحيم قلوب عشرات الملايين من العرب بالحزن الشديد، ولأننا فى زمن يشمت فيه بعض الأنذال فى الموت، فقد كانت هناك فئتان فقط- من أشباه البشر- أظهرتا الشماتة فى وفاة «شعبولا»، صاحب الصوت الجميل والقلب الطيب.. هما الإخوان والصهاينة.. باعتبارهما وجهين لعملة واحدة.
لم أستغرب شماتة بنى صهيون فى وفاة شعبولا، الذى دخل قلوب الملايين بأغنيته الشهيرة «أنا بكره إسرائيل»، التى خرجت فجأة فى ذروة اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، فقال ببساطة عبقرية ما تمنى أن يعبر عنه مئات الملايين من كارهى دولة الاحتلال، ومن يومها تحول شعبولا إلى «أيقونة» سياسية تتحدث بلسان البسطاء فى كل مناسبة سياسية مصرية أو عربية، وأصبح الكثير من أغنياته يستدعى كتابة تقارير إعلامية تنشرها أكبر وكالات الأنباء وتذيعها شبكات التليفزيون العالمية، لأنها أغنيات كانت تحظى بقبول شعبى واسع لتلقائيتها الشديدة، وصدقها الذى يلامس القلوب.
والمثير أنه لم يسلم أحد من لسان شعبولا من البرادعى ووائل غنيم، حتى الرئيس الأمريكى الحالى دونالد ترامب. فقد هاجم شعبولا قراره بتهويد القدس بأغنية قال فى مطلعها:
ترامب خلاص اتجنن
محتاج يا ناس قفص
وكله يخلّى باله
لو عض أو رفس
والحقيقة أن كلمات الشاعر المبدع إسلام خليل، الذى كتب كل أغنيات شعبولا، كانت أحد أهم عوامل نجاحه، لكن هل كانت هذه الكلمات يمكن أن تحقق نفس هذا النجاح لو غناها مطرب آخر غير شعبان؟! أشك فى ذلك.
فى اعتقادى أن ملامح شعبان الطيبة وابتسامته البسيطة والرائعة كانت جواز السفر الأول لدخوله قلوب الملايين. فهى ملامح رأيناها كثيرًا فى حوارينا وأزقتنا وفى أحيائنا الشعبية، بالإضافة طبعًا إلى خفة دمه الماكرة أحيانًا، وألوان ملابسه الفاقعة وقمصانه التى كان يتباهى بشرائها من وكالة البلح، وبأنها تشبه قماش الأنتريه، وسلاسله الذهبية وأحذيته الحمراء والصفراء.
شعبان عبدالرحيم كان بمثابة «خلطة سحرية» لم يتذوقها الناس من قبل، كلمات قوية كالرصاص تعبر عن آلام الناس ببساطة للشاعر الرائع إسلام خليل، وخفة دم وملابس فاقعة ولحن واحد لم يتغير فى أكثر من مائة أغنية.. ورغم ذلك كنا نشعر فى كل مرة بأننا أمام أغنية عبقرية وجديدة.
خلطة شعبولا السحرية فتحت له قلوب المصريين، الذين إذا أحبوا فنانًا أو سياسيًا أو أديبًا رفعوه إلى عنان السماء وتقبلوا منه أى شىء. لقد كان بالنسبة لنا وجبة شعبية فاتحة للشهية.. قرص طعمية بالشطة وطبق فول بالزيت والليمون وقليل من الطرشى البلدى ملفوف فى قرطاس من ورق الجرائد ورغيفين من الخبز الأسمر الساخن.. لا تستطعمها إلا إذا أكلتها على طاولة خشبية مغطاة بمشمع ملون فى وسط الحارة أو على رصيف فى طريق عام، ومهما منحتك الأيام من مال ورفاهية، فإنك لا تنسى حلاوة ولا رائحة هذه الوجبة أبدًا.
هذا بمقاييس الطعام.. أما بمقاييس الفن، فإن شعبولا هو- أيضًا- خلطة سحرية تجمع بين خفة وروعة وتلقائية محمود شكوكو، وفصاحة الأراجوز عندما يتحدث فى السياسة. فقد أحب الناس الراحل محمود شكوكو لأنه يغنى بلسانهم ويرتدى ملابسهم ويحمل طيبتهم ومكرهم أيضًا، وهم لا ينسون دوره فى فيلم «عنتر ولبلب» عندما أثبت أن الحيلة والذكاء الفطرى يهزمان القوة الغاشمة، ولم يكن غريبًا فى عصر أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم أن يقف شكوكو ليقدم فنه أمام جمال عبدالناصر.
أما الأراجوز فهو فن مخاطبة الملوك، وقيل إنه بدأ فى العصر الفرعونى السحيق، وكان يسمى «إرجوس»، وهى تعنى حرفيًا «يصنع كلامًا معينًا»، ومنها اشتقت كلمة «أراجوز»، وقيل أيضًا إنه فن يعود إلى العصر العثمانى للسخرية من الحاكم «قراقوش»، حيث كان يسمى وقتها «قراقوز» أو «الأرا أوز»، وتعنى «العين السوداء»، وقد سُمى بهذا الاسم ليعكس فكرة النظر إلى الحياة بمنظار أسود.
وإذا كان شكوكو أقرب للأراجوز فى ملابسه وطاقيته أو «الزعبوط» الذى يضعه على رأسه، فإن شعبولا جمع بين أجمل ما فيهما، ثم أضاف بصمته الخاصة. فملابسه أقرب للأراجوز «وهذا وصف ليس فيه أى نوع من الإساءة للفنان الراحل الرائع» تجذب العين، وخفة دمه وابتسامته الحلوة وتلقائيته أقرب لشكوكو.. لكن فصاحته أكبر، وكلماته لاذعة أكثر وأكثر.
الشهرة التى حققتها أغنيته «أنا بكره إسرائيل» دفعت لجنة يهودية أمريكية لاتهامه بأنه عدو السامية، وهى تهمة تصيب أكبر السياسيين الأمريكيين والأوروبيين بالرعب، لكنها لم تهز شعرة واحدة فى رأس شعبولا، الذى كان يحتمى بعشق الملايين له.
لقد أحزننى رحيل شعبولا المفاجئ.. وأحزننى أكثر هذا الوداع البارد من إعلامنا لفنان كان الإعلام الدولى يهتز على وقع العديد من أغنياته، التى كانت تعكس نبض الشارع المصرى والعربى.. وأعتقد أننا يجب أن نفكر فى تكريم هذا الفنان العبقرى بشكل أكبر وأكبر.. بما يعادل محبتنا له.