رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"السراب" لنجيب محفوظ.. حكاية الخائنة والساذج

جريدة الدستور

نادى المدرس: "كامل رؤبة لاظ" استدارت الدنيا برأس صاحب الاسم، واجتاحته عواصف ما كان يعتقد ساعتها أنها ستهدأ. كرر المدرس النداء وكرر كامل الصمت. فلسانه لا يقوى على الرد إزاء خفقان قلبه وإصفرار جلده. تملكته القشعريرة فرفع يده بصعوبة بالغة.. وأزاح ببطء تلك الكتلة الحديدية الجاثمة على عرش لسانه إن كان للسانه عرش، وقال بصوت مهزوز: نعم أنا موجود.

كان التلاميذ فى واد وكامل فى واد آخر، الوقت ثقيل كالرحى لا يتزحزح.. مر زمن بعيد حتى دق الجرس. بدأ صاحبنا فى استعادة أنفاسه فخرج مسرعًا، ولما دخل البيت تقدمت نحوه والدته لتحتضنه.. إلا أنه نفر منها ليس كرهًا، ولكن خشية أن ترى فعلته الشنعاء كامل بال على بنطاله.

ضحكت أمه التي لم تتجاوز الأربعين. على ابنها الذى تخطى السادسة بيوم واحد. كانت عذاباتها تفوق عمرها بسنين بعيدة، هى ابنة الأميرلاى "عبد الله بك حسن" أحد ضباط الجيش تزوجت من «رؤبة لاظ» ولم تدم الزيجة طويلًا.

ففى الشهر الأول، خرجت من قصر لاظ ولديها رغبة فى عدم العودة نظرًا لسوء سلوك زوجها المخمور. أثمرت هذه الفترة عن "مدحت" الابن البكر.

ثم عادت إلى القصر بعد إلحاح الزوج ولكن لأسبوعين فقط نتج عنهما "راضية" وتكرر نفس السيناريو الفاشل فجاء كامل.

وافترق الاثنان المتباعدان إلى الأبد. هما تماما مثل المشرق والمغرب، النور والظلام، الخير والشر، الأبيض والأسود، فكيف يجتمعان؟

كان حياء "كامل" يمنعه حتى من الحديث إلى من بجواره فى المقعد المدرسى. لذا كان التلاميذ ينعتونه ب "كامل أبو دم تقيل".
ولما يسأل المدرس سؤالًا وعلى غير العادة يجيب كامل يقول المدرس: مادام التنبل فهم يبقى مش هاشرح تانى.
رسب كامل وتأخر عن أقرانه.. فكان جده "الأميرلاى" ينهره دومًا لغبائه وشدة خجله فيقول لابنته: ربنا بلاكى بعيل بيتكسف أكتر من البنات وأنا اللى عاوزه يبقى ظابط.

خفق قلب أم كامل لما أكمل ولدها التاسعة، الآن يحق لوالده ضمه إليه، كما ضم مدحت وراضية من قبل، إلا أن الوالد وافق على طلب الجد على أن يبقى كامل مع والدته شريطة ألا ينفق عليه مليمًا.

مرت سنين ومازال كامل فى رسوبه وضعفه، وفى يوم نزل من الحنطور الذى يملكه جده بعد أن استأذن الخادم، ثم وقف على كوبرى قصر النيل، ليس من أجل النزهة، ولكن من أجل إنهاء حياته بالانتحار. وقف كامل ينظر إلى الماء وتملكه نفس إحساسه فى اليوم الأول للدراسة. وكاد أن يفعلها على بنطاله، فالمقدم على الانتحار عليه ألا يفكر.

استرجع كامل شريط الذكريات فهرول مسرعًا نحو الحنطور، متجهًا نحو منزل جده الذى كان غاضبًا لهروب راضية من بيت والدها.

أسودت الدنيا فى وجه الأم لكنها هدأت حينما علمت أن راضية تزوجت من شاب طيب تاركة كل قيود والدها.

أخيرًا أنهى كامل البكالوريا لكن مجموعه لا يؤهله لدخول الكلية الحربية، فقرر له جده دخول الحقوق، لأن كامل ليست لديه القدرة على أن يقرر.

كان كامل يستقل الترام من منطقة السيدة زينب إلى الجامعة، وكانت المحطة ملاصقة لمنزلها، رآها تقف خلف النافذ، هى إذن نصفه الآخر، فهو دائمًا نصف لم يكتمل، شخص له قوام مضبوط ولسان مربوط، مر العام وهو يراقبها من الترام وهى مازالت خلف النافذة.

كانت نظراتها هى التى تدفع كامل للذهاب إلى الجامعة، التى أنهكت مصاريفها كاهل الجد، فطلب من كامل أن يستعطف والده، ويخبره بمدى حبه له من أجل بضعة جنيهات.
لكن ذابت كل هذه الكلمات الباردة على لسان كامل بسبب سخونة الموقف، وتسمر الحفيد والجد أمام كلمات الأب اللاذعة فلملما أذيال الخجل وانصرفا.

مر عام على الدراسة لكنه عام عائد، لقد رسب الخجول، وجاءت القشة التى قصمت ظهر البعير، كرر الأستاذ الجامعى ما فعله المدرس فى صبيحة أول يوم فى الصف الأول الإبتدائى، حين طلب من كامل أن يلقى عليهم مرافعة، ولولا أن كامل تمالك أعصابه، لعاد بخيبة البنطلون القديم، لذا قرر إنهاء هذه المهزلة وترك الجامعة.

فعمل بواسطة جده فى وزارة الحربية بالبكالوريا وأصبح له راتب، انتظر محبوبته حتى نزلت، ركبت الترام فحادثها، وكان الأمر أبسط مما يتخيل.

ذهب إلى بيتهم وطلب يدها كان يوم الزواج مريرًا بالنسبة لضعيف مثله، فاشترط على والد زوجته ألا يكون فرحًا له "كوشة" ومعازيم، فقدماه لا تقوى على كل ذلك. ورغم أن الفرح كان داخل الشقة، إلا أن الوقت مر ثقيلا على قلب صاحبنا، ذهبت رباب إلى بيت كامل، ولما اقترب منها ليقبلها ارتجف.

حاول كثيرًا ولكنه لم يقدر، ذهب إلى طبيب مجاور فقص عليه القصة، فهدأ من روعه، وطمأنه، وبعد أيام فوجئ كامل بالطبيب فى بيت والد رباب فخاف أن يفضح أمره، إلا أن الطبيب لم يتذكره، فكامل مجرد مريض مر عليه مرور الكرام، وبعد أيام تحسن وضع كامل، وأصبح يقدر إلا أن رباب قالت له: إنى أحب براءتك.. أريد منك الحب فقط.. حزن كامل لكنه ارتاح لأنها لم تكن كارهة له طيلة الفترة الماضية، حقًا إنها سيدة محترمة.

نشبت الخلافات بين الزوجة والأم، بسبب زياراتها الكثيرة لبيت والدها بعد عودتها من المدرسة، نسيت أن أخبرك أن رباب تعمل مدرسة، دخل كامل البيت فوجد خطابًا فى يد زوجته، فألقت بالخطاب من النافذة بعد أن مزقته، بدأ يشك في سلوكها، فراقبها لأيام لكنه فشل كالعادة ولم يصل إلى شئ.

فتأكد أنها البريئة وهو الخائن، علم أنها مريضة فى بيت والدها بسبب دوار بسيط، ذهب إليها ففتح له جاره الطبيب وهو يبكى، ماتت رباب بسبب عملية إجهاض قام بها الطبيب، تبين من خلال النيابة أن الطبيب هو والد الطفل، الذى سكن رحم زوجة كامل رؤبة لاظ.