رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ شمس الدين الأنبابى.. رئيس علماء المذهب الشافعى



وُلد شمس الدين محمد حسين الأنبابى بالقاهرة سنة ١٨٢٤م، وهو منسوب إلى بلدة «أنبابة»، والمعروفة الآن باسم «إمبابة» وتقع على الشاطئ الغربى للنيل فى مواجهة الزمالك، وهى تابعة لمحافظة الجيزة، وعلماؤها كثيرون، ونُسب إلى «أنبابة» لأنه عاش فيها فترة من حياته، وتابع دراسته الأولى فيها، وكان والده من كبار التُجار، فورث عنه حُب التجارة وكانت له وكالة لتجارة الأقمشة وهى بالغورية حتى الآن وتعرف باسمه.
بدأ حياته، كصبية عصره، بحفظ القرآن وبعض المتون، ثم بدأ دراسته بالأزهر وتتلمذ على كبار شيوخه، مثل الإمام «الباجورى» والشيخ «السقا» و«البولاقى» وغيرهم، ولم يمر عليه غير وقت قليل حتى لفت أنظار شيوخه، فأذنوا له بالتدريس بالأزهر والمدارس التابعة له، وذلك لما كان يمتاز به من العلم الغزير، ومن حُسن الإلقاء وجودة التعبير، وكانت له حلقة كبيرة يتوافد عليها الطلاب والعلماء على السواء، وتسجل المراجع التاريخية أنه بدأ دروسه بالنحو وبالكتب الصغيرة أولًا، ثم أخذ يتدرج حتى وصل إلى الموسوعات، وكان لا يدرِّس كتابًا حتى يكتب عنه تقريرًا مساويًا له فى حجمه، ولقد كان خيِّرًا، سمح السجايا، كريم الخُلق، يقابل السيئة بالحسنة، إلا لو كانت شيئًا يمس الأزهر، مشهورًا بالتقوى والصلاح وحب الخير، مُعينًا للضعفاء والمحتاجين.
فى يوم الأحد سنة ١٨٨١م، تم تعيينه شيخًا للأزهر، وذلك أثناء الثورة العُرابية، وأنعم عليه السلطان عبدالحميد برتبة شرفية، ولم تطل مدة ولايته لمشيخة الأزهر فى هذه الفترة؛ لأنه قدَّم استقالته إثر حوادث الثورة العُرابية، وذلك لما لاحظ إقبال الخديو توفيق على الإمام الشيخ المهدى العباسى، وفى ١٣ ربيع الأول سنة ١٣٠٤هـ، صدر قرار بإعادة تعيينه شيخًا للأزهر وظلَّ به ٩ سنوات، حتى استقال منه لظروف صحية وكرمه الخديو عباس، وأرسل إليه رسالة رقيقة يشكره فيها، وفى أثناء ولايته الثانية للمشيخة أنعم عليه الخديو عباس بالنيشان العثمانى من الدرجة الأولى. وعلى الرغم من أنه لم يكن مؤيدًا للحركة الإصلاحية التى كان يدعو إليها «المهدى العباسى» و«الأفغانى» و«الشيخ العروسى» و«محمد عبده» وغيرهم، ويرى أنه ينبغى أن تكون الدروس فى الأزهر وفى المدارس التابعة له مقصورة على العلوم اللغوية والدينية- فإنه لم يكن يرفضها تمامًا، وإنما كان يرى أنها من فروض الكفاية التى إذا قام بها البعض سقطت عن الجميع، ومع ذلك فقد أفتى بجواز دراسة العلوم الحديثة، وكان الشيوخ يحرمونها، وتعد هذه أيضًا من مكارمه.
والشيخ الأنبابى باشر وظائف كثيرة منها: أمانة الفتوى فى عهد الشيخ «العروسى»، والوكالة عنه فى إدارة الأزهر والفصل فى قضاياه، ومنها توليه التدريس فى الأزهر وغيره، وتعيينه رئيسًا لعلماء المذهب الشافعى بعد وفاة الشيخ «السقا». وأما تلاميذه فهم كثيرون من خيرة علماء الأزهر وطلابه فى زمنه، وما ذلك إلا لكثرة علومه، وقوة عبارته وحجته وسعة ثقافته وتنوع علومه وخلوه من التعقيد. ومن تلاميذه على سبيل المثال الأئمة «حسونة النواوى» و«محمد أبوالفضل الجيزاوى» و«على بن محمد الببلاوى»، وقد تولوا جميعًا مشيخة الأزهر وغيرهم كثير.
لقد ترك الإمام الأنبابى ثروة علمية عظيمة فى شتى العلوم والفنون المعروفة فى ذلك الوقت، فلم يكن يترك كتابًا من الكتب الدراسية المشهورة إلا علق عليه بالشرح والحاشية والتقرير.
يقول صاحب «مرآة العصر»: كل هذه الرسائل والحواشى والتقارير أتت بجليل الفوائد ودلت على غزارة مادة واضعها وسعة اطلاعه. وكما ترك ثروة علمية فيها خير كثير، فقد ترك ثروة مالية طائلة، أوقفها على وجوه الخير. وله مصنفات تزيد على ٤٩ مصنفًا، إضافة إلى الرسائل وفتاوى فقهية عديدة.
من بعض مصنفاته بإيجاز: إجازة من الإمام الأنبابى إلى تلميذه السيد حسن العلوى بن السيد درويش بن السيد عبدالله القويسنى «ذكر فيها أساتذته وما رواه عنهم»، إجازة أخرى منه إلى تلميذه السيد محمد الهجرسى، إجازة ثالثة منه إلى الشيخ يوسف بن عبدالله النقيب «مذيلة بخاتم الإمام وتوقيعه»، تقرير الأنبابى على حاشية الصبان التى استنار بها صاحب «منهج السالك فى أحسن المسالك إلى ألفية ابن مالك» فى النحو، تقرير على مختصر السعد وحواشيه فى أربعة أجزاء، رياضة الصبيان وتعليمهم وتأديبهم، رسالة فى قولهم: «من حفظ حجة على من لم يحفظ»، تقرير على حاشية العطار على شرح الأزهرية فى النحو، تقرير على حاشية السجاعى على قطر الندى فى النحو، تقرير على حاشية السجاعى على شرح ابن عقيل لألفية ابن مالك، تقرير على حاشية الأمير على شرح شذور الذهب فى النحو، تقريران كاملان على حاشية الصبان على شرح الأشمونى لألفية ابن مالك «كل منها يقع فى جزأين»، رسالة صغرى فى حديث: «ليس من أصحابى إلا من شئت لأخذت عنه ليس أبا الدرداء»، رسالة كبرى فى الحديث السابق، حاشية على التجريد، شرح مختصر السعد فى البلاغة، تقرير على شرح جمع الجوامع، وحواشى البنا فى أصول الفقه، تقرير على حاشية الباجورى على متن السلم للأخضرى فى المنطق، حاشية على آداب البحث، تقرير على شرح الشيخ خالد للأجرومية، تقرير على شرح حواشى التحرير «لم يتم»، رسالة فى مبادئ علم النحو، رسالة فى إفادة تعريف المُسند والمُسند إليه، تقرير على حواشى السمرقندية فى البلاغة، تقرير على رسالة الصبان فى علم البيان، رسالة على حواشى الأمير الملوى، رسالة فى مقدمة القسطلانى فى شرح صحيح البخارى، رسالة فى شرح رسالة الدردير فى البيان، تقرير على حاشية الصبان على العصام «لم يتم»، رسالة فى شرح مختصر السنوسى «لم يتم»، شرح على مقدمة سلم العلوم، تقرير على حواشى شروح السنوسية، تقرير على حاشية الشرقاوى على الهدهدى، رسالة فى مداواة الطاعون.
بالإضافة إلى رسائل وفتاوى فقهية عديدة رد بها على المستفتين من الداخل ومن الخارج كالحجاز واليمن والأفغان.
فى أخريات حياته أصيب الشيخ الأنبابى بالشلل، فقدم استقالته من مشيخة الأزهر؛ لعدم تمكنه من القيام بعمله، وجلس فى بيته وعكف على قراءة كتب «الصحاح»، وكتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى»، حتى أتته وفاته ليلة السبت سنة ١٨٩٦م عن عمر يناهز ٧٤ عامًا، وقد أوقف مكتبته وما يملك من عقار فى وجوه الخير. ودُفن بمقابر «المجاورين»، وقد حزن الناس عليه كثيرًا وبخاصة جمهور العلماء، وقد رثاه الشعراء بقصائد عديدة وشُيع إلى مثواه الأخير فى جنازة مهيبة بعد أن أجريت له المراسم المعتادة لشيوخ الأزهر والعلماء الكبار.