رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر وثلاثة تحديات خارجية جديدة




فى مقالنا الأخير «عشر نقاط على حروف الاتفاق التركى الليبى» المنشور بجريدتنا الغراء، الأحد الماضى، أشرنا فى عجالة بـ«النقطة السادسة»، إلى أن الاتفاق يتم فى إطار مشحون بالصراعات والتحديات الدولية التى تجرى على الساحة الليبية.. والحقيقة أن تلك زاوية واحدة فقط من المشهد، لأن هناك تحديات أخرى بالغة الأهمية تواجه مصر فى الإقليم حاليًا، رأيت تناول ثلاثة منها فى مقالنا.
التحدى الأول: الصراع الأمريكى الروسى على ليبيا
ترامب اتصل بحفتر فى ١٩ أبريل ٢٠١٩، عقب بدء معركة طرابلس بأسبوعين، أقر بدوره الجوهرى فى مكافحة الإرهاب وتأمين موارد ليبيا النفطية، وأكد دوره فى إحلال السلام والاستقرار.. وأمريكا عارضت مشروع القرار البريطانى الذى يدين حفتر بمجلس الأمن.. كل الشواهد كانت تؤكد أن الجيش الوطنى يتقدم بثبات، وأنه بات قاب قوسين أو أدنى من دخول العاصمة.. الحسابات الأمريكية ارتكزت على أنه بصدد حسم الحرب لصالحه، ما يفرض عليها التراجع عن تأييد السراج، الذى يفتقد القدرة على ممارسة سلطاته بالعاصمة، وأضحى أسيرًا للميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية.. واشنطن قررت أن تقفز من المركب قبل الغرق، حتى لا تترك ليبيا لروسيا.
قوات «أفريكوم» رصدت تزايدًا للوجود الروسى الداعم لحفتر خلال الشهور الماضية، أبرزه دعم شركتى «Wagner» الأمنية الروسية وشركة «RSB-Group»، فى أعمال تطهير الألغام وعمليات القنص وصيانة المعدات والدعم اللوجستى.. وخلال قمة روسيا-إفريقيا بمدينة سوتشى تم استقبال عبدالهادى الحويج وزير الخارجية ممثلًا للحكومة المؤقتة ببنغازى، إلى جانب السراج رئيس وفد طرابلس، الذى وعدته موسكو بصفقة قمح قدرها مليون طن.. واشنطن تأكدت أن روسيا تراهن على كل أطراف الأزمة، وأن هدفها الاستراتيجى التواجد فى ليبيا أيًا كان المنتصر.. لكن دعمها لحفتر سيحولها حال انتصاره إلى دولة نفوذ.
ريتشارد نورلاند السفير الأمريكى التقى السراج للتعرف على الموقف العسكرى، والصعوبات التى يواجهها لتحقيق الصمود أمام الهجوم على طرابلس، وزيرا الخارجية والداخلية بحكومة السراج زارا واشنطن منتصف نوفمبر.. بعدها دفعت واشنطن وفدًا من مستشارى الأمن القومى ووزارة الخارجية والقيادة العسكرية الأمريكية بإفريقيا، التقوا حفتر ٢٦ نوفمبر، ليؤكدوا ضرورة وقف القتال وإيجاد حل سياسى للصراع.. التفوق بقدر ما يجلب الأنصار، فإن التعثر يشجع المترددين على الإفصاح عن مواقفهم.. جمود الموقف العسكرى على خطوط التماس حول طرابلس، وتأخر الجيش فى الحسم، وارتفاع حجم خسائر المدنيين، ونزوح قرابة ١٢٠ ألف شخص، والخشية من تمدد النفوذ الروسى، كانت الاعتبارات التى غيرت الموقف الأمريكى.
أمريكا لم تكن بعيدة عن التطورات اللاحقة، وأخطرها الاتفاق التركى الليبى، الذى تدرك واشنطن أنه يشكل عنصر ضغط على حفتر لصالح السراج وإخوان ليبيا، وكذا على مصر، التى لم تتجاوب مع ضغوط واشنطن بالامتناع عن شراء الطائرات الروسية «سو-٣٥» كبديل لطائرات «إف ٣٥» التى رفضت واشنطن بيعها لمصر.
واشنطن تستهدف تجريد حفتر من حلفائه «روسيا، فرنسا، مصر، السعودية، الإمارات»، قبل عقد مؤتمر برلين بشأن ليبيا ديسمبر الجارى، حتى تتمكن من فرض التسوية الكفيلة بتحقيق التوازن بينه وبين الإخوان، على النحو الذى يكفل الحفاظ على مصالحها هناك، والحد من الدور الروسى.. لكن الحقيقة أن هذا المؤتمر مهدد بالفشل مثل سابقيه فى باريس وباليرمو، بسبب صعوبة التوافق بين فرنسا وإيطاليا من ناحية، وبين مصر وتركيا من ناحية أخرى، نتيجة لتعارض الأهداف والمصالح، مما ينبئ بشهور عجاف أخرى وتحديات للمصالح المصرية، ستشهدها التطورات على الساحة الليبية.
الثانى: قمة كوالالمبور الإسلامية المصغرة
أردوغان يخوض معركة استراتيجية مع مصر والسعودية، لذلك يتحرك فى مواجهتهما على محاور متعددة؛ أحدها اتفاقه مع مهاتير محمد رئيس وزراء ماليزيا، خلال زيارته أنقرة يوليو ٢٠١٩، على تكوين مؤسسة قمة إسلامية تتجاوز دور منظمة التعاون الإسلامى، وذلك فى محاولة للالتفاف على تأثير السعودية بلد الحرمين الشريفين ومصر بلد الأزهر الشريف.. باكستان انضمت خلال اجتماعها مع رئيس وزرائها عمران خان بنيويورك خلال المشاركة فى اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة سبتمبر الماضى.. كما تم ضم إندونيسيا.. واتفق على استضافة ماليزيا القمة المقبلة ١٩ ديسمبر الجارى، حتى لا تدخل ظاهريًا ضمن دائرة الخلاف بين تركيا وبعض دول المنطقة العربية.
قطر انضمت للتكتل بحكم تحالفها الاستراتيجى مع تركيا، ومواجهتهما دول المقاطعة العربية، مما يفسر وضع القمة المقبلة تحت رعاية «قناة الجزيرة»، واقتراح إنشاء قناة فضائية مماثلة للتكتل.. قطر اتفقت مع تركيا وماليزيا على تفعيل قرار إنشاء ٣ مراكز مالية عالمية، فى الدوحة واسطنبول وكوالالمبور، لتغطية المعاملات المالية الإسلامية حول العالم، يتولى المركز المالى فى قطر مسئولية التمويل الإسلامى بالشرق الأوسط، فيما تهتم تركيا بالتمويل فى أوروبا، وتركز ماليزيا على قارة آسيا، وتبلغ قيمة الاستثمار بالمراكز المالية الثلاثة تريليونى دولار، ما يعطى للتكتل زخمًا اقتصاديًا مؤثرًا.
ماليزيا انضمت للتكتل تحت تأثير أنور إبراهيم رئيس الوزراء المقبل، المعادى للسعودية والإمارات، وطمع مهاتير محمد فى استثمارات جديدة من قطر وتركيا، الأمر الذى أدى لانسحابه من التحالف السعودى باليمن، وإعلانه فى يوليو ٢٠١٨ أنه «أصيب بخيبة أمل من السعودية»، ثم دفاعه عن إيران، وحقها فى امتلاك قنابل نووية.. انضمام باكستان يمكن تفهمه على ضوء انحياز عمران خان رئيس الوزراء لإيران.. لكن الغريب انضمام إندونيسيا.. لكنها السياسة بكل أنوائها وتقلباتها.
تركيا تحاول الإيحاء بأن القمة ذات عمق زمنى، لا ترتبط بمواجهة تكتلات أخرى، مشيرة إلى أن الفكرة خرجت من مهاتير محمد ٢٠١٤، وأن أول قمتين عقدتا فى كوالالمبور بعنوان «الدولة المدنية» والثانية «دور الحرية والديمقراطية فى تحقيق الاستقرار والتنمية»، الثالثة «الحكم الرشيد» فى الخرطوم، الرابعة «الانتقال الديمقراطى» فى اسطنبول، والخامسة «دور التنمية فى الوصول إلى السيادة الوطنية» فى كوالالمبور، بمشاركة ٤٥٠ من المفكرين والمثقفين الإسلاميين.. والحقيقة أن كل المنضمين للتكتل يُحسبون على تيار الإسلام السياسى، خاصة جماعة الإخوان المسلمين، لذلك يدعمون تركيا فى مواجهتها مع مصر والسعودية.
الثالث: المصالحة العربية
الأزمة الخليجية اندلعت فى يونيو ٢٠١٧، أمريكا فى البداية أبدت اقترابًا من الرباعى العربى، خاصة فى مؤتمر الرياض، ترامب أعرب عن تأييده المقاطعة، لكن واشنطن استغلت الأزمة لابتزاز الطرفين.. صفقات واستثمارات من جانب الدول الخليجية، وتوسيع وتطوير لقاعدة «العيديد» بأموال قطرية، بخلاف الصفقات.. عندما احتدمت المواجهة الأمريكية مع إيران، سعت واشنطن لتشكيل جبهة خليجية لمواجهتها، فبدأ الحديث عن المصالحة، مايك بومبيو وزير الخارجية التقى وزير الخارجية السعودى ونظيريه القطرى والإماراتى فى واشنطن نوفمبر الماضى، مؤكدين أهمية وحدة مجلس التعاون الخليجى.
مشاركة السعودية والإمارات والبحرين فى بطولة كأس الخليج الـ٢٤ التى استضافتها الدوحة أواخر نوفمبر، لأول مرة منذ فرض المقاطعة العربية، تعكس توافقًا سياسيًا بشأن المصالحة، اتخذ غطاءً رياضيًا كبداية تمهيدية للقمة الخليجية المزمع إجراؤها بالسعودية، ديسمبر الجارى، تراجعت حدة التراشق الإعلامى بين القنوات الخليجية، وهو أمر لا يحدث بالصدفة، وإنما كتمهيد لأجواء المصالحة، وتزامن ذلك مع إجراءات سعودية تتعلق بتخفيف حدة المواجهات فى اليمن، والإفراج عن الأسرى الحوثيين، وتخفيف الإمارات مشاركتها فى الحرب والدخول فى مفاوضات تهدئة مع إيران، ومحاولة وضع أسس للتعاون كبديل للمواجهة.

تزامنت جهود المصالحة العربية مع المؤامرة التركية بالتواطؤ مع السراج فى طرابلس، وبلطجتها من الشمال بشأن غاز شرق المتوسط، ومن جنوب شرق آسيا فى كوالالمبور، يثير الشكوك فى أن المصالحة قد تستهدف إعادة الدول الخليجية للتحرك ضمن إطار مجلس التعاون الخليجى، بعيدًا عن مصر، مما قد يُحدث ارتباكًا، يخلخل المحور المصرى السعودى الإماراتى الذى يواجه المحور التركى القطرى.. هذا الاحتمال يفرض التيقن من أن «تحقيق المصالحة هدف مجرد، لا مناورة تكتيكية»، وأن تقترن بإجراءات جادة، تعكس رغبة حقيقية فى تخفيف مظاهر التصعيد التى اقترنت بإجراءات المقاطعة، خاصة فيما يتعلق باستدعاء الدوحة التواجد الأجنبى التركى والإيرانى، وإلغاء الترتيبات المتعلقة به، من اتفاقيات ومنشآت وتواجد عسكرى، فضلًا عن وقف الحملات الإعلامية المضادة، وعدم العودة لها، ووقف تمويل أى حملات يتم بثها عبر مصادر أخرى.
المرحلة دقيقة.. تفرض معالجات رصينة.. حفاظًا على الحلفاء.. وتقليصًا لمحور الأعداء.. مصر وحلفاؤها العرب سيعبرونها بنجاح.. الفجر نهاية طريق طويل، قطعناه بأرواح شهدائنا، ودماء جرحانا.