رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معضلة الإجماع




إن هناك ما يقرب من تسعين إمامًا ومجتهدًا ينقل عنهم علماء الدين فى الأزهر وغيره من المؤسسات الدينية، وهم من الأربعة قرون الأولى استنادًا لقول الرسول فى البخارى ومسلم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِى، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، منهم: الأئمة الأربعة، والحمّادان والسفيانان والحسن البصرى وقتادة ومجاهد وابن شبرمة وعكرمة وطاووس والأوزاعى وغيرهم، وقد نشأ من فهم هؤلاء التراث الفقهى الإسلامى.
ينقسم ما يُنقل عنهم إلى قسمين، القسم الأول: هى أمور اختلفوا فيها واختلفت مداخلهم إليها، حتى الإمام الواحد قد يختلف فيها من وقتٍ لآخر، وهذا القسم اعتبروه مخزون الآراء الإسلامية، وأجازوا الاختيار منها بما يناسب مصالح الناس وحالة المستفتى، يقول الإمام الباجورى الشافعى، شيخ الأزهر الأسبق: «من ابتُلىَ بشىء من المُختلف فيه فليُقلّد من أجاز»، وهذا عندهم نوع من الاجتهاد يسمى الاختيار الفقهى.
والقسم الثانى: هى أمور اتفقوا وأجمعوا عليها، بحيث إن أحدًا منهم لم يخالف فيها، وهذا ما يسمى الإجماع، وهذا القسم اعتبروه رأى الإسلام، وهو ينقل عندهم الحكم من الظنية إلى القطعية، يقول الإمام السيوطى فى كتابه الأشباه والنظائر: لا ينكرُ المُختلفُ فيه، إنما يُنكر المُجمعُ عليه، وقد استندوا فى إثبات حجية الإجماع على نصوص كثيرة، لعل أهمها قول الله تعالى فى سورة النساء آية ١١٥: «وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا» هذه الآية هى ما عوّل عليه الشافعى فى الاحتجاج بكون الإجماع حجة وتحرُم مخالفته، ومعنى حجية الإجماع، كما تقول دار الافتاء المصرية: «أنه يجب على كل مكلف الأخذ به، والعمل بموجبه، واعتقاد أن الحكم المجمع عليه حق لا يجوز مخالفته، ولا إعادة الاجتهاد فى مستنده»، وهنا تكمن خطورة الإجماع فى أنهم جعلوه قيدًا على المجتهدين يمنعهم من تجديد الاجتهاد فى المسألة التى يقال فيها إجماع.
وهذا الإجماع فيه كلام كثير، أولًا: فى إمكانه ووقوعه، حيث إنه لا بد معه أن يتفق جميع المجتهدين، فلو اتفق ٩٩ عالمًا على رأى وخالف واحد فقط، فهذا لا يسمى إجماعًا، إنما يسمى رأى الأكثرية، وهو لا يغلق باب الاجتهاد، يقول الإمام الشافعى: «لا يقالُ فى الأمر إجماعٌ إلا ما لا ترى عالمًا إلا وقال به»، كذلك اختلفوا: هل فعلًا الإجماع ينقل المسائل الاجتهادية من الظنية إلى القطعية، وهل يجوز أن يُنْسَخ الإجماع بإجماعٍ جديد؟
والإجماع مُمكن، إلا أن حالات الإجماع الحقيقية هى حالات قليلة جدًا وكلها مرتبطة بأحكام وردت مباشرة فى نصوص دينية قطعية الدلالة والثبوت، بمعنى أنه أمر منصوص عليه فى القرآن والسنة بأجلى وجه، وبشكل واضح لا يختلف عليه أحد، وهذا غالبًا ما يكون فى أصول العبادات والأخلاق والعقائد، وهذه دائرة معدودة ومحصورة، حتى إن كتاب الإجماع لابن المنذر جاء فى ١٢ ورقة تقريبًا، أما الأمور الاجتهادية التى لم يرد بشأنها نص مباشر أو ورد نص لكنه ظنىُ الدلالة أو الثبوت فتحقق الإجماع فيها يكاد يكون مستحيلًا.
وأكثر فترة وقع فيها الإجماع كان فى بداية الخلفاء الراشدين، حيث كان أبوبكر يجمع علماء الصحابة لأخذ رأيهم فى الأمور التى ليس فيها نص، فإذا أجمعوا على أمرٍ التزموا به، وإذا اختلفوا اختار بمنطق الترجيح المصلحى، أى الرأى الذى يحقق مصلحة الأمة، وما عدا ذلك من الإجماعات قلّما يسلم، فأكثر الإجماعات مُدَّعاة، ومن أمثلتها: قضية ديةُ المرأة، قال ابن المنذر وابن عبدالبر: أجمع أهل العلم على أن دية المرأة نصف دية الرجل، وبذلك أفتى الشيخ عطية صقر، من علماء الأزهر الكبار، وهذا إجماعٌ مدّعى، حيث إنه على الرغم من أن الأكثرية الكاسحة من المجتهدين قالوا به، إلا أن هناك من خالف، حيث ثبت أن: أبوبكر الأصم وابن عُلَيَّة قالا إن دية المرأة تساوى دية الرجل، وبالتأكيد أن هذا الرأى هو الموافق لحقوق الإنسان ولكرامة المرأة، ولذلك ورد عن الإمام أحمد: «من ادّعى الإجماع فقد كذِب وما يدريه لعلَّ الناس اختلفوا وهو لا يدرى، فإن كان ولا بد فليَقُل لا أعلمُ، الناس اختلفوا».
الأمر الأخير نسخ الإجماع، رغم أن رأى غالبية علماء الدين أنه لا ينسخ، إلا أن الإمام عبدالعزيز بن أحمد بن محمد البخارى الحنفى صاحب «كشف الأسرار فى شرح أصول البزدوى» من كتب الأصول الحنفية ذكر: أن الإجماع ينسخ إذا كان مبنيًا على عرف زمنى أو مصلحة زمنية، لأن العرف قد يتغير والمصلحة قد تتغير، فالقاعدة أنه «إذا كان العرف والمصلحة هما العلة لهذا الإجماع فإن المعلول أى الإجماع يدور مع علته وجودًا وعدمًا، بل إن الإجماع المبنى على نص آية أو حديث، ولكن فهم النص مبنى على مصلحة أو عرف فإنه يجوز نسخه».
وبالتالى فإن ثالث ما نريده من التجديد الدينى: هو مراجعة الإجماعات والتيقن منها، وهى كما قلنا محدودة للغاية وفى دائرة أصول العبادات والأخلاق والعقائد وبعض أصول المعاملات، فتح المجال للاجتهاد فى كل المسائل التى ادُّعى أن فيها إجماعًا، عدم حصر الآراء المعتبرة للعلماء فى مجتهدى القرون الأربعة الأولى، لأنه رغم حديث «خير الناس قرنى» إلا أن عدل الله يحتم أن يكون هناك علماء ومجتهدون فى كل القرون، وحصر الأمر فى علماء العصور الأربعة يحرم الأمة من مدارس وآراء كثيرة فى التراث الإسلامى وجدت بعد هذه القرون، وفيها ما يناسب زماننا أكثر من القرون الأولى، فتح المجال لنسخ الإجماع الاجتهادى بإجماعٍ آخر إذا وقع ممن يتحقق فيهم شروط الاجتهاد من العلماء.