رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أعطى من لا يملك حقًا لمن لا يستحق



لم نعد فى زمن تدهشنا فيه المفاجأة أو تفجعنا فيه الصدمة.. فكل شىء بات يسير على رأسه، وصار صاحب الحق يقلب كفيه على ما ضاع منه، خاصة بعد إعلان ترامب، فى تبجح، أن القدس عاصمة إسرائيل الموحدة، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إليها، والاعتراف الأمريكى بضم هضبة الجولان للكيان الصهيونى، وقراره بشأن شرعنة المستوطنات، الخطوة التمهيدية نحو إعلان إسرائيل ضم نحو ٦٠ فى المائة من الضفة الغربية، بما فى ذلك وادى الأردن.
كل ذلك كان سُنةً أقرها ترامب، وسار على نهجها الخليفة العثمانى رجب طيب أردوغان، بإشاعته سياسة البلطجة بأجر، ومحاولته فرض الأمر الواقع، مستغلًا تنظيمات إرهابية تبحث عن موضع قدم لها على خريطة السياسة العالمية، وقيادات هشة لأنظمة عربية، هى والعدم سواء، تضر أمتها بوعى وإدراك، تقودهم أحلام هى للسراب أقرب، لأنهم فى النهاية بمواجهة شعوب لن تركع، حتى ولو استكانت لفترة، وأحرار لن يسمحوا لعصر الحريم بأن يعود من جديد.
وإذا تجاوزنا الاعتداء التركى على شمال شرق سوريا، وما يحدث فى الضفة الغربية، فإننا بصدد استثمار حكومة الوفاق الوطنى فى ليبيا، برئاسة فايز السراج، حالة التداخل والتباين بين المجتمع الدولى حول الصراع الليبى، والاعتراف الأممى الذى نالته بعد اتفاق الصخيرات عام ٢٠١٥، لتمارس مهام السيادة والسلطة على الأراضى الليبية بما يحقق استمراريتها وبقاءها، متجاهلةً تداعيات تلك الممارسات على سلامة ومصالح الدولة الوطنية الليبية الموحدة.. وتكررت شواهد تلك الممارسات وتنوعت بين دعم ميليشيات وجماعات مسلحة مسيطرة على مفاصل وأجهزة السلطة بالعاصمة طرابلس، كذلك توقيع اتفاقيات مع أطراف خارجية عدة تتعلق بشراكات اقتصادية وأمنية وملفات أخرى تمس سيادة الدولة.. وكانت المُحصلة، زيارة لوفد برئاسة السراج، إلى مدينة اسطنبول التركية، التقى خلالها الرئيس التركى، وتضمن ختام المحادثات، التوقيع على مذكرتى تفاهم، إحداهما حول التعاون الأمنى، والثانية فى المجال البحرى، ورطتا المجتمع الليبى باتفاقيات تعزز من التدخل التركى فى الشأن الليبى، كما أن طبيعة الوفد المرافق للسراج تكشف عن أن اتفاقية التعاون الأمنى مع أردوغان ترتبط بشكل مباشر بدعمه قوات الوفاق والميليشيات والتنظيمات المسلحة مجددًا؛ لفرض سيطرتها على العاصمة، ومواجهة عملية الجيش الوطنى لتحرير العاصمة، ويستطيع بموجبها الجانب التركى استخدام الأجواء الليبية والمناطق البرية، والدخول للمياه الإقليمية دون إذن من الجانب الليبى، وكذلك إنشاء قواعد عسكرية هناك.. فما الذى أدى إلى تلاقى رغبة الطرفين، على هذه التفاهمات، التى اعتبرها الليبيون الأحرار «خيانة عظمى»، أقدم عليها السراج، فى حق بلاده؟.
فى كتابه «ليبيا جارة تركيا فى البحر» أورد الخبير البحرى التركى، الأدميرال جهاد يايجى، أن ليبيا لها حدود بحرية مع تركيا فى البحر «بتفسير تركى منفرد للمادة ٧٤ من قانون الأمم المتحدة للبحار الموقع فى جامايكا عام ١٩٨٢»، والذى تهدف تركيا من خلاله السيطرة على حوض الغاز فى شرق المتوسط، ويتوقع الكتاب أن تصل قيمته إلى ثلاثة تريليونات دولار.. وكان الأدميرال قد حرض بلاده على الإسراع فى توقيع اتفاقية مع ليبيا لتحديد مناطق النفوذ البحرى، منوهًا بأن الظروف الحالية فى ليبيا تشكل أنسب أرضية لتوقيع مثل هذه الاتفاقية.. وأكد يايجى أن مثل هذا الاتفاق مع ليبيا «سيكون بمثابة درع ضد اليونان وقبرص اليونانية ومصر»، لأن ما سماها منطقة النفوذ البحرى، التى سيتم تحديدها بين بلاده وليبيا ستحول «دون توقيع اليونان اتفاق منطقة اقتصادية خالصة مع قبرص اليونانية ومصر، وتوقيع قبرص اليونانية اتفاقًا مماثلًا مع ليبيا»، وكان قد سبق لرئيس الوزراء اليونانى التأكيد أن «جزيرة كريت سوف تكون، فى القريب العاجل، محور انتقال الغاز الطبيعى فى منطقة المتوسط»، وكذلك تحدث الرئيس القبرصى حول «بحث تحقيق الربط الكهربائى مع مصر عبر البحر».. من هنا، قدمت تركيا الدعم لحكومة الوفاق، وجرّبت الحرب ضد الجيش الليبى، ولكنها فشلت، وتملّك الإحباط أردوغان، بعد تدمير طائراتهم المُسيّرة، ومخازن أسلحتهم فى مصراتة وطرابلس، فراح يبحث عن تعزيز سلطة الإخوان فى ليبيا من بوابة طرابلس ومصراتة، وكذلك فى شمال إفريقيا عبر توقيع الاتفاقيات، فى محاولة من تركيا لقطع الطريق على أى مشاركة فى موارد الغاز لليونان وقبرص اليونانية مع مصر، وكذلك تهديد مصالح إيطاليا ومالطا، مما قد يؤدى إلى نزاع قانونى، ربما يمتد إلى مواجهة عسكرية متوسطية بين هذه الدول، بعد أن زج السراج بليبيا لتكون طرفًا فيها.
فى أكتوبر الماضى، أغضب أردوغان الأوساط الليبية، فى خطاب وصفوه بأنه سقوط للأقنعة، والحديث بوضوح عن حقيقة الأطماع التركية فى ليبيا، حيث قال أردوغان أمام منتدى TRT WORLD، الذى عقد فى اسطنبول، «الأتراك يتواجدون فى ليبيا من أجل حقهم، وحق إخوانهم فى المستقبل.. يتواجدون فى جغرافيتهم، احترامًا لإرث الأجداد، وحق تركيا التدخل فى الشأن الليبى»، باعتبار أن ليبيا إرث أجداده وجغرافيتها جزء من الإمبراطورية العثمانية.. وقد رأت تركيا أن الفرصة سانحة لإضفاء شرعية على تحركاتها المشبوهة شرق المتوسط، حيث تتجه لتعزيز تحركاتها للتنقيب عن الغاز بالمخالفة لقواعد القانون الدولى وخصوصًا بمنطقة النزاع مع قبرص.. وسيعزز من جهودها، استنادها إلى الاتفاقية التى تم توقيعها مع السراج، والتى تعترف «بالمخالفة للحقيقة التضاريسية»، بمقابلة المياه الاقتصادية التركية للمياه الاقتصادية الليبية، الأمر الذى ينتقص من حقوق قبرص اليونانية، المنضمة إلى تجمع دول منتدى غاز شرق المتوسط، كذلك يعتقد النظام التركى أن توقيع اتفاقيتى تعاون أمنى وبحرى، سيمكنه من التحرك بحرية فى المياه الليبية، وسيجعل بإمكانه الالتفاف على عمليات التفتيش البحرى، وفقًا لقرارات مجلس الأمن، ومن ثم إيصال المزيد من الدعم والأسلحة للميليشيات فى طرابلس، بالإضافة إلى توفير مبررات لتحركه على السواحل الليبية، حتى ولو تعارض ذلك مع أمن وسلامة ومصالح الدولة الليبية.
أما السراج، فقد رأى تراجع قدرات ميليشيات الوفاق والتنظيمات التابعة لها، فى مواجهة تقدم الجيش الوطنى لتحرير العاصمة، وفرضه حظرًا جويًا فعالًا على مناطق القتال حول طرابلس، الأمر الذى يكبد الميليشيات خسائر كبيرة، ويقطع عنها الدعم اللوجستى والمعلوماتى، الذى اعتادت أن يقدمه لها الطيران التركى المُسير.. ولهذا وجد السراج وحكومته فى مذكرتى التفاهم أملًا فى حصاد دعم تركى جديد لميليشياتهم، وفرصة لإمداد هذه الميليشيات والتنظيمات الإرهابية بالمنطقة الغربية، بما يمكنها من إعادة بناء قوتها.
إذن هى أزمة جديدة تلوح فى الأفق بحوض المتوسط، وتطرح تساؤلات، وسط دعوات محلية وإقليمية بالتحرك لتجميد عضوية المجلس الرئاسى الليبى، فى الجامعة العربية والاتحاد الإفريقى.. وقد اقترح خبراء تشكيل فريق عمل قانونى مختص، لدراسة إمكانية تجنيب ليبيا أى مسئولية تتعلق بتوقيع السراج هاتين المذكرتين، ومنعه وحكومته من تمثيل ليبيا دوليًا، والتوقيع على أى اتفاقيات أو التصرف فى أموال الليبيين.
حفظ الله مصر.. من كيد الكائدين.