رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

21 نوفمبر.. ميلاد عاشقة الجرأة والحكمة والأسئلة المحرمة



كنت متأكدة من أنها مثل الأشياء الجميلة الراقية التى سوف تمر مرور المطر على سحابات الصيف ولن يتذكرها أحد، حتى مَن يتأسفون على أحوالنا التى تحتاج إلى وقت طويل لكى تفيق وينعدل مسارها، نسوا موعدها وانشغلوا بتبادل الاتهامات وتكرار الأخطاء والتناقضات الفكرية.
كنت على يقين، بل إننى راهنت إحدى صديقاتى اللائى يعملن فى مجال الصحافة، على أن الصحافة لن تلتفت إلا لمهرجانات الموسيقى والسينما، وأزياء المتمخطرات على السجادة الحمراء، وبيان مفتى الجمهورية عن أن الحجاب فرض وسُنة، وعن السفير الأمريكى الجديد الذى كان لاعب كرة سابقًا، والخناقات منحدرة اللغة والرأى بين ضيوف مواقع التواصل «غير الاجتماعى»، وبالطبع أنا التى كسبت الرهان، بل وكنت شاهدة عيان على رحيلها مثل كل سنة وهى تبتلع مرارة التجاهل والغربة وقسوة النسيان.
إلينا فى الموعد نفسه، وسوف تشعر باستمرار غربتها وتجاهلها ونسيانها، جاء شهر نوفمبر وراح دون أن نتذكر مولدها فى ٢١ نوفمبر ٢٠٠٢، أو الخميس الثالث من كل نوفمبر وأعنى به «اليوم العالمى للفلسفة»، الفلسفة تلك الساحرة الواعية الناضجة المفكرة الحكيمة التى تفتح لنا كل أبواب حرية الفكر وجرأة الأسئلة ولا نفتح لها بابًا واحدًا صغيرًا، أو نافذة واحدة ضيقة لكى تتنفس على أرضنا.
لست وحدى أدين للفلسفة بكل المنح والامتيازات التى أنعم بها، ولولاها كنت الآن «ريشة فى مهب الريح» لا جذور لها، تعصف بها الحياة كما تشاء وترميها أينما تريد، بل أقول إن البشرية كلها إذا كانت قد حققت شيئًا مفيدًا، نافعًا، راقيًا، عادلًا، مبدعًا، ممتعًا للإنسان، فهو كله بفضل الفلسفة ومولود من رحمها المعطاء.
هناك خطأ شائع، وهو أن الفلسفة رفاهية وأن فعل التفلسف هامشى وغير ضرورى، تقوم به أقلية منعزلة مستريحة، لكن التفلسف، شئنا أم أبينا، جزء لا يتجزأ عن الحياة، والفلسفة هى المنارة التى ترشدنا إلى الفهم، والفهم ضرورة للتغيير والتقدم والتحرر والسعادة. هناك سعادة فى الحب والعمل والصداقة وممارسة الهوايات، لكن هذه السعادات قصيرة العمر لا ضمان لها، وهى فى أوقات الأزمات الروحية العنيفة تفشل فى منح الإنسان الصلابة الداخلية المطلوبة.
إنها الفلسفة وحدها التى تعطينا مناعة قوية ضد الأزمات، وهى القادرة على منحنا مذاقًا مختلفًا من السعادة أكثر عمقًا ونضجًا، وبالتفلسف تصبح لكل شىء، مهما يبدو ضئيلًا، قيمة إيجابية ومتعة خاصة.
بالتفلسف يستطيع الإنسان انتزاع المعنى من أشياء يراها الجميع تافهة. إن التفلسف هو السؤال عن أصل الأشياء، كلمة «لماذا؟» هى جوهر التفلسف، و«لماذا؟» هو السؤال الذى تحرمه وتجرمه الأفكار والأنظمة والأوضاع والأنماط والعلاقات القاهرة المستبدة، «البحث عن أصل الأشياء» هذا هو ما يُخيف أولى الأمر فى الأسرة والدولة.
لكل تجربة بعد فلسفى، بمعنى أن كل تجربة إنسانية تحوى خصوصية إنسان معين فى زمان ومكان محددين، لكنها فى الوقت ذاته تتجاوز ذاتية وخصوصية ذلك الإنسان لتلمس آفاقًا إنسانية يواجهها البشر فى كل زمان ومكان، ونقصد بهذا معنى الحياة ومصير الوجود والمرض والحزن والموت والتجارب القاسية، إلى درجة أنها يمكن أن تفقدنا توازن العقل وطمأنينة الروح والتصالح مع صفعات الزمن.
إن الرغبة المستمرة فى الفهم تجعلنا ندرك أن التجربة فى حد ذاتها ليست «مهمة» أو «تافهة»، القضية هى كيفية النظر إلى التجربة، وتجاوز ما هو جزئى، وشخصى، وعابر إلى ما هو كلى، وغير شخصى، وغير عابر. إن الرغبة المستمرة فى الفهم تحقق تنوعات من المعرفة تبدأ بمعرفة الإنسان لنفسه، وها هو «سقراط» الفيلسوف اليونانى «أبو الفلاسفة»، ٤٦٩ ق. م - ٣٩٩ ق. م، يلخص جوهر التفلسف، قائلًا: «اعرف نفسك».
إن معرفة النفس أيضًا فضيلة كبرى، بل إن هناك مَن قال إن معرفة النفس هى المعرفة الوحيدة الممكنة. من هنا نفهم لماذا دائمًا يُتهم الإنسان الذى لا ينكر ذاته ولا يخفيها ولا يُضحى بها، على سبيل المثال نجد أن المجتمعات الذكورية تطالب المرأة بالتضحية ونكران الذات من أجل الزوج والأطفال وخدمات الأسرة الأبوية، والمرأة الرافضة لهذا الفكر تتهم بأنها «شاذة»، «ضد الطبيعة»، و«ضد شرع الله».
والشىء نفسه حينما كان الحُكام الأسياد يطلبون من العبيد أن ينسوا ذواتهم من أجل تأكيد ذات السيد وطاعته العمياء، على أساس أن ذات الحاكم هى «الوطن»، ومَن لا يفعل ذلك يُتهم بالجنون أو بالخيانة الوطنية.
هل نطلب من الإنسان الفقير المظلوم المقهور أن «يتفلسف»؟، إذا كان التفلسف هو الفهم فالإنسان الفقير المظلوم المقهور يكون أحوج الناس للتفلسف، بمعنى أن يتساءل عن وضعه الخاص.. لماذا أنا فقير؟ لماذا أنا مظلوم؟ ولماذا أنا مقهور؟، وبالتالى يستطيع أن يرتد إلى أصل الأشياء فيتعمق التساؤل، لماذا الفقر فى العالم؟ ولماذا الظلم والقهر؟
إن التفلسف والتساؤل عن أصل الأشياء عملية مستمرة تنمو مع الممارسة، وهذا ما قصده الفيلسوف الألمانى «إيمانويل كانط»، ١٧٢٤- ١٨٠٤، حين قال: «نحن نتعلم التفلسف من خلال التفلسف».
من بستان قصائدى
أيهما أكثر خطرًا على الفضيلة.. أيهما أشد دنسًا
ويغضب الله أكثر.. كأس من الخمر
أم كئوس من الشتائم المترنحة.. والاتهامات البذيئة الثملة؟