رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تنقية الأحاديث النبوية «نقد متن الحديث»


الأحاديث النبوية هى: ما ورد عن رسول الله «ص» من قول أو فعل أو تقرير، وبعد عصر الرسول ضُمّ إلى الحديث ما ورد عن الصحابة، فالصحابة كانوا يجالسون الرسول ويسمعون قوله ويشاهدون عمله، ويحدِّثون بما ورد وما سمعوا، فكان من الإِخْبار عن رسول الله وصحابته «الحديث».
- وللأحاديث النبوية قيمة كبرى فى الإسلام تلى القرآن، فهى البيان الثانى الذى يكشف عن مضمون البيان الأول، والقرآن دال على السنة، والسنة مبينة له بالنسبة للأمر والنهى وما يتعلق بأفعال المكلفين أو الأخبار، وعلاوة عليه فإن السنة تتوّلد وتتحرك منها شتَّى المفاهم والأفكار والثقافات والحضارات الإسلامية، فالتراث الإسلامى كله نشأ من مركز واحد هو القرآن والسُنة.
- وهذه المنزلة العظيمة للأحاديث النبوية جعلت العناية بها وإخضاعها للنقد والبحث والتدقيق الدائم واجبٌ على علماء ومفكرى الأمة، يقول عميد الأدب العربى الدكتور طه حسين: «الموضوع خطير حقًّا لا يقف الناس عنده فى هذه الأيام، وإنما يشفقون منه أشد الإشفاق، يخافون أن تزل أقلامهم أو أن يثيروا سخط المحافظين، الذين قرروا أن هذا النحو من العلم قد أصبح شيئًا مقدّسًا أو كالمقدس لا ينبغى التعرض له إلا بالنقل والاستشهاد، فأما النقد والتعمق فأشياء لا يستقيم الخوض فيها لأحد...» الموضوع إذن خطير قيّم وهو نقد ما وصل إلينا من الحديث الذى يحمل عن النبى «ص»، وتمييز الصحيح عن غيره ليطمئن المسلمون إلى ما يروى لهم عن رسول الله، وقد ألح على البعض فى تبيين أشياء تحمل على النبى وليست من كلامه فى شىء، إنما دست عليه لأغراض مختلفة بعضها دسته جماعة من أهل الكتاب أظهروا الإسلام والورع واخترعوا أشياء من عند أنفسهم، أضافوا بعضها إلى النبى وأضافوا بعضها إلى التوراة، وليست هى من كلام النبى ولا من التوراة فى شىء، وبعضها دس أثناء الوعظ والقصص أريد بها دعوة الناس إلى الفضائل وحب الخير واجتناب الآثام فرغّبوا ورهّبوا، ولم يتحرجوا من إضافة أشياء إلى النبى يرون أن الناس يتأثرون بها أكثر مما يتأثرون بكلام الوعاظ والقصاص، وأشياء أخرى دست تملقًا للخلفاء ورجال الحكم والتماسًا للحظوة عندهم، وأشياء أخرى اخترعها المختصمون فى علم الكلام والفقه دفاعًا عن آرائهم فى هذين النوعين من العلم، وأشياء دست لنشر الدعوة لبعض الأحزاب السياسية فى العصور الأولى، ذلك إلا أن أفراد الناس أكثروا من اختراع الحديث ليلقوا فى روع العامة وبعض الخاصة أنهم أصحاب علم غزير ومعرفة دقيقة بأقوال النبى وأعماله، وكان لهذا كله أثره فى إفساد العقول والانحراف بآراء كثير من الناس عن الاستقامة فى فهم الدين وتصور النبى كما ينبغى أن يتصوّره المسلمون منزّهًا عن هذا السخف الكثير الذى حُمل عليه وهو منه برىء، وكان هذا أيضًا مطمعًا لكثير من خصوم الإسلام وأعدائه فى نقد الدين والتحامل عليه وعلى الرسول الذى جاء به ظلمًا وبهتانًا.
- هذا وقد نشأ من عدم تدوين الحديث فى كتاب خاص فى العصور الأولى واكتفائهم بالاعتماد على الذاكرة، وصعوبة حصر ما قاله الرسول أو فعل مدة ثلاثة وعشرين عامًا من بدء الوحى إلى الوفاة، أن استباح قوم لأنفسهم وضع الحديث ونسبه كذبًا إلى رسول الله، ويبدو أن هذا الوضع حدث حتى فى عهد الرسول فحديث «من كذب علىَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» يغلب الظن أنه إنما قيل لحادثة حدثت زوِّر فيها على الرسول، وبعد وفاته «ص» كان الكذب أسهل وتحقيق الخبر عنه أصعب، ولما فتحت الفتوح ودخل فى الإسلام من لا يحصى من مصر والشام والفرس وغيرهم، وكان من هؤلاء من لم يتجاوز إيمانهم حناجرهم كثر الوضع كثرة مزعجة، قال ابن عدى: لما أُخِذَ عبدالكريم بن أبى العوجاء الوضَّاع ليقام عليه الحد قال: لقد وضعت فيكم أربعة آلاف حديث أحرّم فيها وأحلل، وحسبك دليلًا على مقدار الوضع أن أحاديث التفسير- التى ذُكر عن أحمد بن حنبل أنه قال لم يصح عنده منها شىء- قد جمع فيها آلاف الآحاديث، وأن البخارى وكتابه يشتمل على نحو سبعة آلاف حديث منها نحو ثلاثة آلاف مكررة، قالوا إنه اختارها وصحت عنده من ستمائة ألف حديث كانت متداولة فى عصره.
- ومن المعرفة التى لا تحتاج إلى الجدال: أن نقد الحديث ليس فى عملية جديدة، فقد فطن المحدِّثون القدماء لهذا كله، واجتهدوا ما استطاعوا فى التماس الصحيح من الحديث وتنقيته من كذب الكذابين وتكلف المتكلفين، وكانت طريقتهم فى هذا الاجتهاد نقد سند الحديث، أى الرواة، بمعنى الدرس لحياة الرجال الذين نقلوا الحديث جيلًا بعد جيل حتى تم تدوينه، فكانوا يتتبعون كل واحد من هؤلاء الرجال ويتحققون من أنه كان نقى السيرة صادق الإيمان بالله ورسوله، شديد الحرص على الصدق فى حديثه كله وفى حديثه عن النبى خاصة، وهو جهد كبير ومحمود بذله المتقنون من علماء الحديث لوضع قواعد صحة الحديث بوصفه نصًا يحفظ ويأدى أكثره على النقل الشفهى، فنقد الحديث من جيل إلى الأجيال معتمدًا على الضوابط أو القواعد التى أثبتها القدماء بعلم مصطلح الحديث.
- ولكن هذا الجهد على شدته وخصبه لم يكن كافيًا، فمن أعسر الأشياء وأشدها تعقيدًا أن تتبع حياة الناس بالبحث والفحص والتنقيب عن دقائقها، فقد يكون الرجل صادقًا مأمونًا فى ظاهر أمره، بحيث يقبل القضاة شهادته إذا شهد عندهم، ولكن الله وحده هو الذى اختص بعلم السرائر وما تخفيه القلوب أو تستره الضمائر، كذلك قد يكون الرجل صادقًا لكن قدرته على الحفظ ودقته فى النقل أو الفهم تكون ضعيفة، فلم يكن بُد من أن يضاف إلى نقد السند أو الرواة جهد آخر وهو نقد المتن، بمعنى درس نص الحديث نفسه الذى يرويه العدول عن بعضهم البعض؛ لنرى مدى موافقته للقرآن والمبادئ والمقاصد الأساسية للدين، وكذلك مدى موافقته للعقل والفطرة السليمة.
- فإذا وصل إلينا حديث عن النبى فينبغى أن ندرس نص هذا الحديث ونتبين أنه لم يناقض القرآن، ولم يناقض ما تواتر من أعمال النبى.. فإن كان فيه مناقضة قليلة أو كثيرة رفضناه واطمأنت قلوبنا إلى رفضه؛ لأن النبى إنما كان مفسرًا للقرآن ومفصلًا للمجمل من أحكامه، وكذلك كانت عائشة رضى الله عنها تفعل، فقد نقل إليها أن بعض الصحابة يقولون إن النبى رأى ربه ليلة المعراج، فقالت لمن نقل إليها ذلك: لقد قف شعرى مما قلت وقرأت الآية الكريمة من سورة الأنعام: «لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ»، ونقل إليها عن بعض أصحاب النبى أن النبى قال إن الميت ليعذب ببكاء أهله فرفضت هذا الحديث وقرأت قول الله تعالى من سورة فاطر: «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ».
- إن ثانى ما نريده من التجديد الدينى هو التحول فى نقد الأحاديث النبوية الشريفة من نقد السند «رواة الحديث» إلى نقد المتن «نص الحديث»، مما يسهم فى تحويل علم الحديث من علم نقلى إلى علم عقلى نقلى.
-