رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إذن.. ما التجديد الدينى الذى نريده؟


هل تستوعب النصوص الدينية «آيات القرآن وصحيح السنة النبوية»، مجمل تطورات المستقبل والحياة؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هى مفتاح معرفة المقصود بالتجديد الدينى، والواقع أنه لولا أن النص الدينى يستوعب مجمل تطورات المستقبل والحياة لفقد طابعه الإلهى وصلاحيته لكل زمان ومكان، إن مشكلة المسلمين الكبرى منذ غلبة منطق التقليد وعقليته، تنبع من عدم إدراك هذه الحقيقة، حيث لم يعد استيعاب الوحى لتطورات الحياة والمستقبل أمرًا مستقرًا وحاضرًا فى الوعى ودافعًا لحركة الاجتهاد، الأمر الذى أدى إلى مد فهم الأئمة التاريخى للنص الدينى إلى غير زمانه ومكانه، وبالتالى عدم مواكبته تطورات الإنسان والحياة.
إنه لا وسيلة لاستيعاب الوحى مجمل تطورات الحياة والمستقبل، إلا من خلال اشتمال نصوصه على مضامين ومعانٍ لا تخص وضع الصحابة أو التابعين، بل تهدف إلى معالجة تطورات العصور اللاحقة ثم العصور التى تليها، وهذا يعنى أن النصوص القرآنية تحمل عطاءات ومعانى لعصر التابعين لم يكن يعرفها الصحابة ولم يكونوا مكلفين بمعرفتها، وتحمل عطاءات ومعانى لأهل القرن الثانى لم يكن يعرفها أهل القرن الأول، ولم يكونوا مكلفين بمعرفتها، وتحمل عطاءات ومعانى لأهل القرن الثالث لم يكن يعرفها أهل القرن الثانى ولم يكونوا مكلفين بمعرفتها، وتحمل عطاءات ومعانى لأهل القرن الخامس عشر الهجرى لم يكن يعرفها أهل القرن الرابع عشر ولم يكونوا مكلفين بمعرفتها، وستحمل عطاءات ومعانى لأهل القرن القادم لا يعرفها أهل هذا القرن وليسوا مكلفين بمعرفتها، وهكذا، ولو دققنا النظر فى أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فسنجد أنها تشير إلى تجديد الدين، وتخبر بأن القرآن جديد لا يبلى ولا تنقضى عجائبه ولا يخلق عن كثرة الرد، فما معنى تجديد الدين وعدم انقضاء عجائب القرآن وعدم نفاد معانيه مهما كثر الأخذ عنه؟، إن الأمر يتعلق بهذه المواكبة وهذا الاستيعاب لتطورات الظروف والأحوال البشرية. ولولا هذا الامتداد المستقبلى لكان الوحى معادلًا لكلام البشر من حيث عدم الامتداد والصلاحية لكل زمان ومكان، وهذا يعنى أن فهم أئمة وفقهاء المسلمين عبر التاريخ «التراث الفقهى الضخم» ليس سوى قراءات اجتهادية للوحى «القرآن وصحيح السنة النبوية» فى مراحل زمنية معينة، وبمجرد أن تتغير الظروف والأحوال سيكون فى الوحى مضامين جديدة تسمح بمعالجة هذه المستجدات، وأنه يجب على المجتهدين المعاصرين اكتشافها، وسيكون هذا الفهم التاريخى والسائد بالضرورة متأخرًا عن هذه المضامين الجديدة وغير قادر على معالجة المستجدات، كما كان عليه من قبل.
إننا إذا نظرنا إلى المعرفة البشرية نجد أنها شهدت تطورات وقفزات هائلة فى الفلك والطب والهندسة والإدارة والسياسة والاقتصاد والتنظيم وشتى صنوف المعرفة البشرية، فهم الإنسان لنفسه وللكون والحياة تطور واتسع، ولا يزال يتطور ويتسع، فكيف يواكب الوحى هذا التطور والاتساع إذا لم يتجدد فهم هذا الوحى؟ إن فهم الوحى يمكن أن يكون قويًّا وإيجابيًّا وإبداعيًا خلال حقبته الزمانية وظروفه المكانية، إلا أنه لا يمكن أن يستمر على هذا النحو إلا بالتجديد والتطوير المستمر بقدر تطور المعرفة والإمكانيات والظروف البشرية، أما حين لا يتجدد ولا يتطور، فإن اختلاف الظروف الزمانية والمكانية وتطور المعارف البشرية العامة يؤدى إلى إضعافه والنيل من إيجابيته وانتهاء طابعه الإبداعى وتحوله إلى معارف قديمة وتاريخية يتجاوزها الزمن وتتخطاها المعرفة البشرية باستمرار، إن أبسط الناس فى عصرنا يستطيع الوصول إلى معلومات عن الأرض والفلك والإنسان والنبات والحيوان، وعن السياسة والاقتصاد والإدارة أكمل وأدق وأشمل من المعلومات التى كان يعرفها كبار أئمة المسلمين وكبار فلاسفة اليونان وكبار المكتشفين الغربيين خلال القرون الماضية، ليس لتميز فى إنسان عصرنا البسيط أو لنقص فى قدرات أولئك الأئمة والفلاسفة والمكتشفين، بل بسبب تطور المعرفة البشرية، ومكمن الإعجاز الأكبر فى الوحى والوجه الوحيد الذى يجعله صالحًا لكل زمان ومكان هو أنه يواكب ويستوعب هذا التطور فى المعرفة البشرية، وهو ما يجعله بحاجة إلى اجتهاد مستمر يكشف ذلك الاستيعاب كلما تقدم الزمان أو تغير المكان.
إننا حين ننظر إلى التجربة التاريخية للمسلمين، فإننا سنجد أن فترات الفاعلية الحضارية هى تحديدًا الفترات التى كان يتم الانطلاق فيها من هذا الامتداد الزمانى والمكانى للوحى، وعدم السماح بأن تكون الاجتهادات السابقة عوائق فى سبيل إعادة الفهم، إن مقولة الإمام مالك التى ذكر فيها أن كل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا الرسول، هى فى وجه من وجوهها محاولة لتأكيد عدم قدسية اجتهادات الصحابة وعدم جواز وضعها سدًا فى طريق إعادة فهم الوحى. لقد تعاقب ظهور الأئمة الأربعة الكبار، بل إنه تزامن ظهور بعضهم ومنهم من تتلمذ على يد آخر، وعلى الرغم من ذلك فإن لا أحد منهم اعتقد بأنه يجب الوقوف عند اجتهادات من سبقه، فلماذا كانت هذه الفاعلية والجرأة فى طرح الاجتهادات وعدم وقوف أى منهم عند اجتهادات معاصريه أو سابقيه؟ لأنهم كانوا ينطلقون من الإيمان بأنه لا قداسة إلا للوحى، وأنه يتجاوز حدود الزمان والمكان، وأن اجتهادات من عاصرهم أو سبقهم ليست سوى اجتهادات بشرية يؤخذ منها ويرد.
إن أول معانى التجديد الدينى الذى نريده هو: تجديد فهم الوحى «آيات القرآن وصحيح السنة النبوية»، ليواكب ويستوعب تطورات الإنسان والحياة.