رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رمز ميكروفونات الصلاة




ما زلت أطالب بحظر الميكروفونات فى الجوامع والمساجد والزوايا، وما زلت أؤمن بأن هذا الحظر من أساسيات تجديد وإصلاح الخطاب الدينى الذى نتعثر فيه منذ عام ٢٠١٤، وأن ضبط أداء الخطباء والأئمة والدعاة والمشايخ فى دور العبادة هو من أحد الأدلة الرئيسية على تفتح العقول وبعدها عن التعصب.
إن الفوضى التى طالت إنشاء المساجد والجوامع والزوايا وانتشار مشايخ غير مؤهلين ودعاة جهلاء وأئمة يسيسون الدين، يروجون للتطرف والتعصب وامتزاج خطبة الجمعة بأجندة الإسلام السياسى التكفيرى الكاره للحياة وللنساء، هى من الأسباب الرئيسية التى أفرزت الإرهاب الدينى وآلية بغيضة تستعرض الصلاة، وترسخ أن الأديان مجرد شكل من الطقوس لا يراعى حرمة البيوت وخصوصية الناس.
كتبت كثيرًا عن أن استخدام مكبرات الصوت فى المساجد والجوامع فى رفع الأذان وفى أثناء الصلاة لا يفعل شيئًا إلا «تكبير» تخلفنا، و«تصغير» قامتنا فى الرقى الحضارى، طالبت عدة مرات على مدى سنوات بأن تنطلق حملة قومية تؤيد حظر استخدام مكبرات الصوت فى الصلاة من المسئولين عن الصحة والبيئة، وكذلك وزارة الأوقاف والأزهر.
كتبت عن أضرار الضوضاء أو التلوث السمعى الذى أصبح معلمًا من معالم الوطن أينما ذهبنا شمالًا وشرقًا وغربًا وجنوبًا فى المدن وفى القرى، كل إمام، كل شيخ، كل خطيب يصلى بالناس فى الجوامع وفى المساجد بمكبر الصوت فى آن واحد، لنا أن نتصور كم الضجة المنبثقة من آلاف الأئمة والخطباء والشيوخ.. ضوضاء من دون حياء تقتحم حرمة المسكن وسلامة الأذن وخصوصية الوقت باسم الصلاة.
ما الذى سيحدث إذا أقيمت الصلاة من دون ميكروفونات؟ هل ستكون باطلة لو لم يصاحبها مكبر الصوت الذى يزعج الناس ويعكنن عليهم ويصيبهم بالتوتر العصبى والخلل السمعى؟! إنه نوع بشع من الإرهاب الدينى الذى يُقترف تحت اسم الصلاة وذكر الله، وأصبح شيئًا قبيحًا اعتدنا عليه خاضعين وكأنه من مكملات الصلاة، إنها لحقيقة معروفة أن الزعيق وارتفاع الصوت هما الوجه الآخر لغياب المنطق وضعف الحُجة.
إن استخدام مكبر الصوت لإقامة الصلاة من إرث السبعينيات من القرن العشرين، حينما فُتحت الأبواب لظاهرة التأسلم وتيارات الإسلام السياسى على اختلاف أطيافها كان مكبر الصوت أو ميكروفون الصلاة ضمانًا لأن ينتشر الإرهاب والتطرف والتعصب الدينى إلى كل شبر فى الوطن، الذى يئن بمشكلات الفقر وغياب العدالة الاجتماعية وتفشى البطالة وتردى الثقافة والأخلاق، بمعنى آخر يقوم الميكروفون بخدمة توصيل الإرهاب الدينى إلى المنازل مجانًا.
لعبت مكبرات الصوت أثناء الصلاة دورًا أساسيًا فى تمهيد التربة لأشد التفسيرات الإسلامية تخلفًا ومرضًا وتزمتًا، أتذكر جيدًا أننى كنت أسمع خطب الجمعة التى تهين النساء وتمدح دولة الخلافة الإسلامية، وتقول بضرورة أسلمة كوكب الأرض وتحرض على العنف وتكفير المجتمع وإشعال الفتن الطائفية.
إن الإرهاب الدينى ليس فقط سفك الدماء واغتيالات وممارسة العنف الجسدى، الإرهاب يمتد ليشمل كل أنواع التسلط والعنف المنظم الذى يؤذى البشر المسالمين فى عقولهم أو فى أجسادهم أو فى معنوياتهم.
يتكفل الميكروفون بالإرهاب المعنوى، العقلى، الفكرى، الذى يسفك الخصوصية ويقتل حق البشر فى بيئة هادئة، ويئد قدراتهم العقلية على التركيز والتفكير والإبداع، ويصيبهم بالتوتر والأرق وخلل فى وظائف الأذن.
أعرف بعض المسلمين الذين يخرجون من بيوتهم إلى الشوارع وقت صلاة الجمعة لاستحالة احتمالهم الضوضاء المنبعثة من عشرات الميكروفونات فى وقت واحد، وأعرف بعض الناس الذين غيروا كل نمط حياتهم فى الاستيقاظ والعمل وتناول الطعام والنوم بشكل لا يتعرضون فيه إلا إلى الحد الأدنى من ضوضاء ميكروفونات المساجد التى تحاصر بيوتهم وحجبت عنها الشمس والهواء ومنظر الخلاء الواسع، وأعرف البعض الذين تمنعهم ضجة الميكروفونات، والتى قد تظل تزعق بالساعات دون رقابة ودون رادع أخلاقى، من الاستمتاع بالجلوس فى شرف منازلهم.. أنا شخصيًا أستخدم سدادات الأذن حتى تنتهى شعائر الصلاة يوم الجمعة.
يقولون إن إثارة مسألة ميكروفونات الجوامع والمساجد، مسألة «تافهة» وعلينا البداية بحل المشكلات العويصة.
أولًا: عند انتهاك حقوق الإنسان لا توجد مشكلات تافهة ومشكلات مهمة.
ثانيًا: إذا كانت ضوضاء الميكروفونات مشكلة تافهة، فلماذا إذن فشلنا فى القضاء عليها طالما أنها «تافهة»؟
ثالثًا: هل يمكن أن ننجح فى المشكلة «العويصة» ونحن قد فشلنا فى المشكلة «التافهة»؟
إن استمرار الميكروفون أثناء الصلاة هو امتداد لعدم الحظر الكافى لاستخدام الدين فى السياسة، وعدم الحزم فى تدعيم أركان الدولة المدنية الحديثة المنصوص عليها فى الدستور، الفشل فى استئصال الميكروفون لتأدية الصلاة لهو دليل على استمرار تسييس الدين والزج به فى الحياة العامة، وعدم حظر الأحزاب السياسية التى تنشأ بالمرجعيات الدينية، وكيف تتدخل بآرائها وشروطها فى أمور الدولة، كيف نتعايش مع هذا التناقض؟
إن «الميكروفون» فى الصلاة يصبح بالتالى رمزًا سياسيًا وثقافيًا فى المقام الأول، وليس مجرد رمز دينى تمامًا مثل الحجاب والنقاب، وفى الوقت نفسه يعبر عن أيدٍ مرتعشة ونفوس خائفة وعقول متأرجحة فى التعامل مع تيارات الإسلام السياسى.
نحن فى حرب الآن مع الإرهاب الدينى، ولذلك هى فرصة ذهبية قد لا تتكرر للتخلص من ذيول وبقايا وميراث مظاهر التأسلم الإرهابية التى تخالف الدستور وتعمل على إعادة إنتاج الإسلام السياسى بكل اتجاهاته.
إننى أطالب وزير الأوقاف بإصدار قرار يرقى إلى مستوى القانون الذى يحظر استخدام الميكروفونات فى دور العبادة، وأن تكون هناك عقوبات سريعة رادعة لمن لا ينفذ القرار.
من بستان قصائدى
جئت فى الزمان الخطأ.. وقذفت فى المكان الخطأ
لكننى لا أتذمر.. ورغم عدم الارتواء
يسعدنى الظمأ..