رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نجيب محفوظ من جديد


عرفت نجيب محفوظ أول ما عرفت من خلال السينما، وبصفةٍ خاصة عبر أفلام «الثلاثية واللص والكلاب وميرامار»، ثم اقتربت منه أكثر وأكثر مع سنوات الشباب والوقوع فى غرام القراءة، والحق أننى وجدت نفسى فى محفوظ، ابن المدينة، والطبقة الوسطى الصغيرة، خريج كلية الآداب، الهدوء الظاهرى الذى يخفى بركان الانفعالات التى لا تظهر إلا من خلال فعل الكتابة.
من هنا كانت سعادتى بالكتاب الوثيقة «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة» للكاتب الباحث المُدقِق محمد شعير، إن رواية «أولاد حارتنا» هى أكثر أعمال محفوظ إثارةً للجدل، رغم أنها ليست أهم أعماله، لذلك أثارتنى منذ البداية رحلة البحث حول تاريخ ما وراء الرواية، ولأننى أعرف «شعير» جيدًا، وأعرف نزعة التمرد على المألوف لديه وبحثه عن الجديد دائمًا، لم أندهش من كَم التوثيق حول تاريخ الرواية، أو الأبعاد السياسية والاجتماعية لأزمة رواية «أولاد حارتنا».
من البداية يُعلن شعير عن انحيازاته الفكرية، إذ يُهدى كتابه إلى طه حسين ونصر حامد أبوزيد، فى إحالةٍ مهمة لقضية حرية التعبير والرأى، ومعاركهما الفكرية فى هذا الشأن.
يبدأ شعير وقائع دراسته برسم صورة بانورامية للحياة العامة فى مصر والعالم العربى فى خريف عام ١٩٥٩، وهو هنا يبدأ البداية الصحيحة لأى دراسة عن أزمة كتاب، إذ تبدأ المشكلة من أزمة المجتمع، وما أزمة الكتاب إلا انعكاس للأزمة الكبرى «أزمة المجتمع».
ويبهرنا «شعير» عبر صفحات كتابه، التى وصلت إلى حوالى ٣١٨ صفحة، بهذا الكَم الهائل من الأرشفة الصحفية والمراجع والبحث الدءوب عن المعلومة الجديدة والمختلفة، من هنا كان تذييله الكتاب بملحق وثائقى مهم، فضلًا عن قائمة المراجع.
يتتبع «شعير» ببراعة قصة ميلاد الرواية، منذ أعلن محفوظ عن كتابته لها، مرورًا بالضجة مع صدورها، انتهاءً باستمرار معركة «أولاد حارتنا» حتى الآن.
يرى «شعير» أن أزمة محفوظ الأساسية هى أزمة جيل الفترة الليبرالية، وكيف يُبدِع فى ظل أجواء ثورة يوليو وقيود حرية الرأى، والتأييد المُطلَق للثورة أو الصمت، وبالتالى ضرورة البحث عن لون جديد من الخَلق الأدبى.
ومن خلال دراستى لأزماتٍ مُشابهة، نجد أن العاصفة والاعتداء على حرية الرأى تبدأ من خلال «بلاغ» للأسف من مثقف حول العمل الأدبى والفكرى، وهذا ما توصل إليه شعير بدقة يُحسَد عليها، إذ يرصد شعير ويتتبع دور الصحفى والشاعر صالح جودت فى إثارة الموضوع، بل وفى إثارة جودت بعد ذلك الزوابع حول بيان الكُتّاب الشهير الصادر فى عام ١٩٧٢ والموَجه للرئيس أنور السادات، الذى شارك فيه توفيق الحكيم ومحفوظ.
ويرصد «شعير» بدقة كيف انتقلت أزمة «أولاد حارتنا» من على صفحات الجرائد إلى منصة البرلمان، وكيف هاجم وزير الاقتصاد، حسن عباس زكى، زميله وزير الثقافة ثروت عكاشة، لأن الأخير أسند مهمة الرقابة على المصنفات الفنية إلى رجل «متهم فى عقيدته الدينية»، أى نجيب محفوظ! وهو نفس ما حدث مع أزمة كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلى عبدالرازق فى عام ١٩٢٥، وأزمة كتاب «الشعر الجاهلى» لطه حسين عام ١٩٢٦، حيث انتقلت المعركة من على صفحات الجرائد إلى منصة البرلمان وأروقة السياسة.
كتاب «أولاد حارتنا: سيرة الرواية المحرمة» يؤكد من جديد أن الأزمة هى أزمة مجتمع وليست أزمة كتاب أو رواية، إنها أزمة حرية التعبير فى مجتمعاتنا العربية.