رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أسرار الخلافات القطرية- التركية ومستقبلها


قبل زيارة تميم لأمريكا يوليو ٢٠١٩، أردوغان سرَّب تقريرًا اتهم فيه قطر بعدم الوفاء بتعهداتها، التى التزمت بها إبان أزمة انهيار العملة التركية أغسطس ٢٠١٨، والتى كانت تقضى بضخ ١٥ مليار دولار استثمارات لدعم الاقتصاد التركى.. تميم رد ضمن محاولته استرضاء ترامب، بأن تحالفه الاستراتيجى مع تركيا لا يعنى الموافقة على ما تعتبره واشنطن لا يتفق وتوجهاتها السياسية، واستضافت قناة الجزيرة بالإنجليزية ثلاثة صحفيين، بعضهم محسوب على جماعة «فتح الله جولن» المعارضة لأردوغان، اتهموه بقمع الحريات ومصادرة استقلال الصحف، وشن حملة قمعية ضد الصحفيين، وإغلاق قرابة ١٠٠ وسيلة إعلامية.
أوغلو وزير الخارجية التقى تميم ٣ نوفمبر، خلال تمثيل بلاده فى الاجتماع الخامس للجنة الاستراتيجية العليا بالدوحة، واستنكر موقف الجزيرة المعادى لتركيا، لكن الأمير اعتبره مظهرًا لحرية الإعلام.. الأمير أعرب عن تقديره للدعم التركى فى مواجهة حصار الرباعية العربية منذ يونيو ٢٠١٧، وأوغلو وجه له الشكر على «دعم» العملية العسكرية التركية ضد الأكراد بسوريا!!.. لكنه عجز عن الحصول على وعد بدعم مالى أو استثمارات جديدة. عشية الزيارة، ردت تركيا بمقال افتتاحى لصحيفة «ديلى صباح» التى يمولها حزب العدالة والتنمية بزعامة أردوغان، عنوانه «الجزيرة الإنجليزية تهديد للتحالف التركى القطرى»، محذرًا من أن التحالف أصبح تحت تهديد ما تنشره القناة من دعاية مضادة، تحت ادعاء الصحافة المستقلة والحيادية، وأشار إلى أن تغطيتها العملية العسكرية التركية ضد الأكراد شمال سوريا، تدخل فى نطاق حملات التشهير، ما يفرض على تركيا اعتبارها منبرًا إعلاميًا مضادًا، وتضمن المقال عبارات قاسية ضد النظام القطرى، وهدد صراحة «انتشلناكم من الأزمة الاقتصادية الحادة بعد المقاطعة.. منحنا الأمير قصرًا عثمانيًا بقيمة ٩٠ مليون دولار على ضفاف البوسفور.. جزيرتكم معادية لنا.. لسنا مجبرين على حمايتكم دون مقابل..».. الهجوم التركى أجبر الأمير على التراجع، وأصدر أوامره بعزل سيف بن أحمد آل ثانى رئيس مجلس إدارة المدينة الإعلامية مدير مكتب الاتصال الحكومى من منصبه، تجنبًا لمزيد من تدهور العلاقات، خاصة أن الخلافات بينهما أضحت متعددة وعميقة. قطر بعد تعهدها باستثمار ١٥ مليار دولار، وجهت ١٣٠ من شركاتها فى القطاعات المختلفة، وكذا رجال الأعمال للاستثمار فى تركيا.. عندما بدأوا العمل فوجئوا بأن أردوغان يفرض عليهم فى التعاقدات الحكومية التعامل مع شركات تركية موالية سياسيًا!!.. استثمارات قطاع خاص تخضع للتوجيه السياسى من دولة المصدر، وتعمل بالتوجيه السياسى فى دولة النشاط، لا بد وأن عوائدها كارثية.. المستثمرون يواجهون صعوبات جمة، أهمها انهيار الليرة ومنع التحويلات وانكماش الاقتصاد، وتفشى الرشوة والفساد بالمؤسسات الحكومية، مما يفسر خسائر الاستثمارات القطرية المتراكمة، وعدم التمكن من الانسحاب بموجب التفاهمات السياسية للحكومتين.. ثم إن قطر، هى البلد العربى الوحيد الذى يستثمر قرابة مليار دولار فى قطاع الإعلام بتركيا، وهى استثمارات سياسية غير مربحة، توجه لتشغيل وسائل الإعلام التابعة لأردوغان وفلول الإخوان المصريين، مما يفسر محاولات المستثمرين الهروب من السوق التركية، من خلال سوق اسطنبول للأوراق المالية، حتى إنه فى الأشهر الـ٥ الأولى من ٢٠١٩، تم رصد خروج ٤.٦ مليار دولار، تشكل ٣٠٪ من الاستثمارات القطرية. وفى مجال الطاقة تستشعر تركيا الغضب تجاه عدم وقوف قطر إلى جانبها فى معركة غاز شرق المتوسط، شركة قطر المحدودة للبترول تعاونت مع «إكسون موبيل» عام ٢٠١٧ فى صفقة تنقيب عن الغاز مع القبارصة اليونانيين، ثم قامت بشراء حصة من «روس نفط» التى استحوذت على جزء من حصة «إينى» الإيطالية فى حقل «ظهر»!!.. ردود الفعل التركية تجاه هذه الإجراءات اتسمت بالمرارة، من انحياز حليفتها الرئيسية تحت ضغط مصالحها إلى جانب خصومها، وهى تخوض مواجهة ضارية تستند على ادعاءات كاذبة بحمايتها لمصالح القبارصة الأتراك، لذلك دفعت سفن الاستكشاف والتنقيب للعمل داخل المنطقة الاقتصادية الحرة لقبرص، خلافًا لقواعد القانون الدولى، وتحت حماية السفن الحربية والفرقاطات مما ينذر بالحرب. تركيا تواجه أزمة تثير الرأى العام الرياضى، بسبب شبكة «دى جى تورك» التابعة لـ«بى إن سبورت» القطرية، التى وقعت فى نوفمبر ٢٠١٦ عقدًا لمدة ٥ سنوات بقيمة ٢.٥ مليار دولار، يتعلق بحقوق البث الحصرى لمباريات الدورى، على أن تسدد دفعات سنوية بقيمة ٥٠٠ مليون دولار للاتحاد التركى لكرة القدم نصفها بالدولار والنصف الآخر بالليرة التركية، وفق معدل اتسم بالثبات آنذاك، نظرًا لاستقرار العملة، ما ساعد الشركة على الوفاء بالتزاماتها خلال الموسمين الماضيين، لكنها توقفت مؤخرًا، وبدأت تجادل، متعللة بالهبوط الحاد فى سعر العملة «٤١٪ منذ توقيع العقد»، ما عرضها لخسائر جسيمة، نتيجة اضطرارها لتحويل إيراداتها بالليرة إلى العملة الصعبة لتسديد مدفوعاتها الدولارية.. وتمارس الشركة حاليًا ضغوطًا على الاتحاد لتقليل قيمة الصفقة وتثبيت معدل التحويل، تعويضًا عن تدهور العملة، خاصة أن عدد المشتركين قد انخفض على مدار الأربع سنوات الماضية من ٣ ملايين إلى ٢.٤ مليون، نتيجة عدم تصدى السلطات لعمليات القرصنة، وعدم تسهيل الأندية إجراء مقابلات مع اللاعبين والمديرين بعد المباريات لجذب المشاهدين.. لكن الاتحاد يرفض التجاوب بسبب إعداد موازناته على الإيرادات المتوقعة وفقًا للتعاقد، ولأن أندية الكرة غارقة فى الديون.

مع تعدد جوانب النزاع القطرى- التركى، ورغم محاولات احتوائه، فإن هناك حقائق تحكم مستقبل العلاقات بين الدولتين.. الأول: أن قطر قد سئمت من تركيا وإيران كحليفتين «متسولتين»، طامعتين فى الدعم، وهو ما لا تستطيع تلبيته إلى ما لا نهاية، خاصة مع الاستنزاف الأمريكى، مما قد يفرض تغييرًا استراتيجيًا فى تحالفاتها.. الثانى: أن المبررات التى وضعت قطر فى خندق واحد مع تركيا قد انتهت، خاصة ما يتعلق بسياسة «الفوضى الهدامة»، ودعم ثورات «الخريف العربى».. الثالث: أن الخلاف بين قطر ودول الرباعية العربية يعتبر أحد رواسب حقبة انتهت سياساتها، بحكم تعلقه بموقفها من دعم الإخوان والتنظيمات المسلحة وجماعات التغيير بالمنطقة، وهى تدرك أن هذه التنظيمات هُزِمت وتوارت، والمرحلة ينبغى تجاوزها بكل تداعياتها.
والحقيقة أن هناك أسبابًا للتغيرٍ فى السياسة القطرية ربما فى الطريق؛ أردوغان توبراك كبير مستشارى رئيس حزب الشعب الجمهورى أكد أن تميم قرر سحب الاستثمارات القطرية بمختلف القطاعات التركية كالإعلام والسياحة والتجارة، وذلك عقب مقابلته ترامب فى واشنطن.. والولايات المتحدة تسعى للتوفيق بين قطر والرباعى العربى حتى تشكل جبهة موحدة ضد إيران فى الخليج.. ورعونة ردود أفعال أردوغان تجاه فشل محاولات ابتزازه الحليف القطرى قد تعجل بالتغيير.. المنطقة خسرت كثيرًا نتيجة التواجد العسكرى التركى والنفوذ الإيرانى فى قطر، وعلينا الاستعداد التعامل بمرونة وبراجماتية مع أى تراجع أو مبادرات قد تعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.