رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سفير فى مواجهة ثورتين و4 رؤساء لمصر




الحكمة التى تقول إن «الذهب يمتحن بالنار والرجال بالتجارب» تنطبق كثيرًا على الشيخ راشد بن عبدالرحمن آل خليفة، سفير مملكة البحرين فى القاهرة ومندوبها الدائم فى جامعة الدول العربية، الذى يحزم حقائبه الآن استعدادًا للعودة إلى بلاده، بعد تسعة أعوام قضاها كسفير للبحرين فى القاهرة، فقد خاض هذا الرجل تجربة دبلوماسية صعبة ودقيقة، دفعته فى كثير من الأحيان للسير على حافة السيف بخطى ثابتة، دون أن يفقد لباقته أو كياسته كدبلوماسى يمثل بلدًا صديقًا لمصر.. ودون أن يفقد ابتسامته الصافية حتى فى أصعب المواقف.
كان فى الثلاثينيات من عمره عندما صدر الأمر الملكى بتعيينه سفيرًا فى مصر، وهو حلم يراود كثيرًا من الدبلوماسيين العرب، لأن القاهرة محطة دبلوماسية شديدة الأهمية يتعلمون منها الكثير، ويتمكنون خلال وجودهم بها من اكتساب خبرات وصداقات مهمة تؤهلهم لمزيد من الترقى فى العملين الدبلوماسى والسياسى، ولا بد أن الأمر كان كذلك فى البداية للشيخ راشد، الذى لم يكن يتخيل أنه سيخوض تجربة دبلوماسية صعبة وشديدة الوعورة، فقد عاش خلال هذه الفترة كل الأنواء التى هبت على مصر خلال فترة الربيع العربى وما تلاها، ولذلك عاصر خلال ٩ سنوات فقط، ثورتين شعبيتين وأربعة رؤساء للجمهورية، وتسعة رؤساء وزارة وستة وزراء للخارجية، وكان عليه فى وسط هذا كله أن يبقى مبتسمًا هادئًا يمد جسور المحبة والصداقة بين مصر والبحرين. عرفت أنه وسط هذه الظروف كان يتجول بحرية فى شوارع القاهرة، خاصة فى شوارع القاهرة القديمة مصطحبًا ضيوفه وزواره رافضًا تعيين حارس شخصى له، وطوال السنوات التسع اتسعت دائرة صداقاته بشكل كبير، خاصة بعد أن أصبح عميدًا للسلك الدبلوماسى العربى. ربما أدهش هذا كثيرين ممن بدأت علاقتهم به كسفير، لكن الأمر لم يكن كذلك لمن عرفوه- مثلى- خلال عمله فى وزارة الإعلام البحرينية، عندما كان مسئولًا عن إدارة الإعلام الخارجى ووكيلًا مساعدًا لوزارة الإعلام ورئيسًا لهيئة الإذاعة والتليفزيون، فقد كان بالنسبة لنا رجلًا يعشق أى موقع يتولاه ويتفانى فى أداء عمله، ويجيد إقامة جسور الصداقة مع المتعاملين معه، لأنه يضع الاعتبارات الإنسانية فوق كل الاعتبارات، ويعلى من قيمة الصداقة، وهو رجل شديد المحبة لبلده، وشديد المحبة أيضًا لمصر والمصريين. عرفت منه أنه قرر تدوين تجربته الدبلوماسية الفريدة فى كتاب، وكم أنا شغوف بقراءة هذا الكتاب، لأعرف كيف تعامل مع أربعة رؤساء، حيث جاء إلى مصر لتسلم مهامه فى العام ٢٠١١، وبالتحديد فى الأيام الأخيرة للرئيس حسنى مبارك، وعاش عامًا فى ظل حكم الإخوان والرئيس محمد مرسى، ثم عاش ما بعد ٣٠ يونيو وتولى الرئيس عدلى منصور، وأخيرًا الرئيس عبدالفتاح السيسى، وأتوقع أن يروى كيف كان مسئول الرئاسة يأتى إليه كل مرة وهو يقول: «أنقل لك تحيات فخامة الرئيس وتمنياته لك بالتوفيق فى مهمتك الدبلوماسية»، فيرد تحيته بوقار وينقل تحية جلالة الملك لفخامة الرئيس، وكيف قال لأحد المقربين له فى المرة الأخيرة: «لا أعرف من الذى سيتغير أولًا أنا أم مندوب فخامة الرئيس؟!». لا بد أن التعامل مع ستة وزراء للخارجية «أحمد أبوالغيط، نبيل العربى، محمد العرابى، محمد كامل عمرو، نبيل فهمى، وأخيرًا سامح شكرى» فى مثل هذه الظروف لم يكن سهلًا، وكذلك مع تسعة رؤساء وزارة. قلت له مرة بعد أن علمت بقرب مغادرته القاهرة: سيعز علينا كثيرًا ألا تكون بيننا، خاصة أن دائرة صداقاتك اتسعت كثيرًا وبالتحديد بين الإعلاميين، فابتسم فى هدوء قائلًا: وأنا أيضًا سيعز ذلك علىّ أكثر، لكن العمل فى القاهرة لسنوات طويلة ليس سهلًا، مصر بلد كبير جدًا، وبه سفارات لأغلب دول العالم، ويكفى أن تعرف أن هناك ٢٠٠ رسيبشن «حفل استقبال» يجب علىّ حضورها سنويًا، هذا غير اللقاءات الدبلوماسية ومع كبار السياسيين، وحضور فعاليات ومؤتمرات الجامعة العربية باعتبارى المندوب الدائم لبلادى بها.
كنت أعلم مدى حرصه على التوجه إلى المطار لاستقبال أى مسئول سياسى أو دبلوماسى، أو نائب بحرينى يحضر إلى مصر، وكيف كان يعنى بقاؤه فى السيارة لخمس أو ست ساعات، من وإلى المطار، وبعدها تبدأ عمليات الترحيب بالضيف ومتابعة تسهيل مهمته فى مصر، وتابعت كيف أشرف على ست قمم مصرية بحرينية جرت فى القاهرة منذ تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى الحكم، هذا غير التمهيد لزياراته إلى المنامة، فى ظل علاقات نمت بشكل كبير وواضح منذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
لقد رفض الشيخ راشد نصيحة السلطات الأمنية المصرية بتعيين حراسة شخصية له خلال ثورة ٢٠١١، واستمر رفضه حتى آخر لحظة، وفى الأيام الرياضية التى تنظمها الملحقية الثقافية بالقاهرة، كان يشارك فى المسابقات بملابسه الرياضية ويحرص على الوجود طول الأيام الرياضية حتى نهايتها.
وخلال أيام الانتخابات النيابية الأخيرة التى جرت فى السفارة للبحرينيين المقيمين بالقاهرة، كان يحضر للسفارة فى السادسة صباحًا، أى قبل مركز الاقتراع ليشرف على كل شىء ولا ينصرف إلا بعد منتصف الليل، واستمر ذلك على مدى يومى الانتخابات.
رغم حزنى الكبير على مغادرته مبنى السفارة البحرينية خلال الأيام القليلة المقبلة، إلا أننى شديد الإعجاب بمقدرته على اختيار الرحيل وهو فى قمة تألقه، وفى قمة نجاحه أيضًا، وهو هنا يذكرنى بما كتبته الروائية الجزائرية أحلام مستغانمى بأن «هناك عظمة ما، فى أن نغادر المكان ونحن فى قمة نجاحنا، إنه الفرق بين عامة الناس والرجال الاستثنائيين».
تحية محبة واحترام وتقدير للشيخ راشد بن عبدالرحمن آل خليفة، ولن نقول لك أبدًا «وداعًا» بل سنقول «إلى اللقاء».