رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذين يغيرون جلودهم




التقيت بإحدى صديقاتى التى لم أرَها منذ شهور فى افتتاح معرض للفن التشكيلى وكانت فرصة لتجاذب أطراف الحديث بيننا.. وهى سيدة أنيقة وجميلة الملامح، صريحة وناجحة فى حياتها الأسرية، وهى عضو عدة جمعيات خيرية، وسيدة مجتمع راقية، تعمل فى شركة زوجها لبعض الوقت وليس لكل الوقت.
أثناء حديثها معى سألتنى: ما الذى يحدث فى مجتمعنا؟.. الناس اتغيرت واختلفت كثيرًا.. بجد ما الذى غير الناس إلى هذا الحد؟.. ومن الذى منح كل هذه الألقاب التى أصبحت تطلق دون أن نعرف إن كانت صحيحة أم لا؟.. ولماذا أصبحت لغة المصالح هى السائدة على كل القيم والعادات الجميلة التى نشأنا عليها؟.. ولماذا هناك نوع من التباهى بالذات رغم ضعف المضمون وضعف مقومات نجاح البعض؟.. ثم نظرت إلىّ وسألتنى: وأنتِ كيف لم تتغيرى؟.. رجوتها أن توضح الهدف من سؤالها أكثر، فقالت: هناك أناس ليس لهم أى أهمية فى الحياة، أناس مدعون، وليس لديهم أى موهبة، لكنهم مع ذلك فى منتهى العجرفة والغرور، ولأنهم حديثو نعمة، فدائمًا يوحون لأنفسهم بأنهم الأفضل من غيرهم والحقيقة غير ذلك تمامًا!
بعد هذا التوضيح، فهمت الهدف من أسئلة محدثتى عن عدم تغيرى، فقلت لها إن «من خرج من بيت تربى فيه على القيم والاجتهاد والتفوق، فهو لن يتباهى بنفسه مهما وصل من نجاحات، ومن تربى فى بيت شبع، أى بيت لديه قناعة ولا يحب الطمع والمظاهر والتباهى بالنفس، ستجدين أنه يختلف عمن تربى على التدليل والتباهى والإحساس بأنه أفضل من الجميع، ومن هجر بيته الاجتهاد والإحساس بالآخرين، فسيشعر دائمًا بالأنانية، ويتركز جل اهتمامه على المظاهر دون البساطة والقناعة والكفاءة، لذا لن تجدى لدى هؤلاء التواضع أو العطاء للآخرين أو الاجتهاد أو احترام الآخر، ثم وجدت نفسى أكمل رأيى ورؤيتى لها، ولما حدث من تغير فى الناس وفى المعايير والقيم والأخلاق.
وحمدًا وشكرًا لله تعالى على أننى تربيت فى بيت كانت فيه مبادئ حقيقية، ومنها الاعتماد على الاجتهاد، والتحلى بالقيم النبيلة، والتفوق عن جدارة، وليس التباهى بالمال، أو التباهى بعقد صفقات المصالح، والميل إلى المظهرية، والاتسام بالأنانية، والحقيقة أننى أضفت أيضًا أننى تربيت على الاهتمام بالثقافة وبأهمية العطاء فى مجال العمل الخيرى، أى أن تعطى جزءًا من وقتك وجهدك لمجتمعك ولمساندة المحتاجين، وكذلك العطف على الفقير، لكن هناك فئة، وهى الغالبية العظمى الآن لا تدرى عن المبادئ والقيم شيئًا، ولم تشبّ عليها أو تتعلمها أو تفهم قيمتها فى بناء شخصية سوية متوازنة، ولا عن أصول التعاملات شيئًا ولا يريدون حتى أن يعرفوا.
وأكملت حديثى قائلة: إن المشكلة التى نعيشها الآن فى تقديرى تكمن فى فوضى العلاقات بين الناس، لأن هناك تغيرًا كبيرًا حدث فى المجتمع مع أحداث يناير ٢٠١١، حيث طغت الفوضى، واختراع ألقاب فضفاضة، وتلميع ناس ظهروا فجأة فى القنوات الفضائية والبرامج المختلفة، ومنها التوك شو على سبيل المثال، وأعطاهم الإعلام ظهورًا وشهرة، وكأن مصر قد بدأت تاريخًا جديدًا مع أحداث ٢٠١١.. وبدأ الإعلام يتناول معاول الهدم والتدمير لأسماء عرفناها، وشخصيات حيّة حققت وجودًا محترمًا فى المجتمع، ويتجاهل فى الوقت نفسه تاريخ شخصيات قدمت الكثير للوطن وللمجتمع، وفى زحمة الفوضى وإثارة الفتن وظهور أسماء أناس (....) واختفاء أسماء أناس لهم قيمتهم ووزنهم، رأينا هوجة من اختلال المعايير، وكأن من يؤيدون أو شاركوا فى أحداث يناير هم فقط الأخيار، أما باقى المجتمع المصرى، فلا يستحقون أن يكونوا فى المجتمع.
وبدأت هوجة السباب وإطلاق الاتهامات وإظهار وجوه جديدة باعتبارهم وجهاء المجتمع.. وفى الشارع كانت تسود الفوضى الممنهجة، ومحاولات إثارة الفتن وتكفير الناس، وتيار ظلامى يحاول تحقير كل شىء، ووسط كل هذا كان لا بد من تحقير الثقافة والمثقفين الحقيقيين وأصحاب الفكر المتميز، وبدأ حرق الكنائس، وقتل الناس، ونشر الإرهاب.. ووسط كل هذه الفوضى كان لا بد أن يحدث خلل فى المجتمع وفى المعايير وفى القيم وفى السلوكيات.. وهكذا ابتعد كثير من العقلاء عن ساحة الفوضى والخلل.
إلى أن قامت ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣ فنزل الملايين إلى الشوارع وخرج للصورة من كانوا لا يظهرون منذ أحداث يناير ٢٠١١، وبدأت فترة انتقالية جديدة أزاحت الكثير من الوجوه القبيحة والظلامية والمفروضة علينا من الإعلام.. ثم بدأت مرحلة مختلفة تحمل معها متغيرات جديدة لمصلحة الوطن واستقراره بانتخاب الرئيس عبدالفتاح السيسى ومحاربة الإرهاب ومشوار طويل وصعب سار فيه لإعادة الاستقرار والأمن والحياة الطبيعية فى مصر.
وهكذا بدأت الحقائق تتكشف والأقنعة المزيفة تسقط، وعرف الشعب أن معظم النشطاء كانوا نشطاء سبوبة، وأن المؤامرات دولية وهدفها انهيار المجتمع وتفتيت الشعب، ومن ثم التصنيف على هذا الأساس وارد معه نشر الكراهية.
وبدأت الحياة تنتظم فى مصر كما لاحظنا، وبدأت مرحلة البناء والإنجازات والمشروعات الكبرى، وفى ظل كل هذه التغييرات الكبرى التى مرت بنا، كان لا بد أن يتغير الكثيرون ممن لا يملكون المبادئ والقيم النبيلة، وأن تتغير العلاقات بين أفراد المجتمع والقواعد المنظمة لها، ومع عودة الاستقرار كان قد طفت على السطح شخصيات كثيرة ظنت أنها هى التى تستحق أن تكون فى واجهة المجتمع، رغم أننا لا نعرف عن خلفياتها الكثير، ولا عن نشأتها ولا عن مشوارها المهنى أو العملى أو الاجتماعى أو عن أصولها أى شىء.
وظهرت علينا فى الإعلام أسماء تظن أنها تمتلك مقومات قيادة المجتمع، لكنها- للأسف الشديد- تربكه وتربح قيمة وبرامج توك شو بها من الصوت العالى ما يزعج ويثير البلبلة، وزاد الطين بلة هوجة من الفن والدراما الهابطة التى تدمر القيم وتكرس العنف والبلطجة، وظهر على سطح المجتمع أسماء بالعشرات فى مختلف المجالات ليس لهم أى إنجاز فى المجتمع المصرى، ولم يعد معيار القيم أو الأخلاق ذا أهمية تذكر، حيث اختلت الموازين والمعايير، ولم تعد القيم هى أحد معايير الشخصية السوية أو الناجح، أو أن يكون التفوق فى الدراسة أحد معايير النجاح للطالب، أو أن يكون الفيلم الراقى الذى يحمل رسالة نبيلة أحد معايير جودته، بل أصبحت الفجاجة فى الفن والدراما والسينما أحد طرق كسب المال، وأصبح أبطال الأفلام التجارية العنيفة والإعلاميون ذوو الصوت العالى وفئة جديدة عشوائية، هم مشاهير المجتمع وحاملو الألقاب التى لا نعرف من الذى أعطاها لهم، وهم الذين يشترون أفخم القصور والسيارات، ويرتدون أغلى الثياب والماركات العالمية، ولم تعد البساطة ميزة، ولا الأدب ميزة، ولا الأخلاق ميزة، ووسط كل هذا، نجد أن ملايين الشباب تائهون لا يحترمون الكبار، لأنه تم هدم هذه القيم العليا مع أحداث يناير ٢٠١١، ووسط هذه الفوضى لم تجد الأجيال الجديدة أمامها معظم الوقت سوى مشاهد العنف والبلطجة والغث والتافه فى الإعلام وفى الدراما، وغرقوا فى بئر مواقع التواصل الاجتماعى، حيث لم يجدوا التوجيه وتعظيم الأخلاق بين أهلهم أو فى مدارسهم، وهكذا تقلص دور الأسرة وتراجع دور المدرس الصالح، بل كاد يختفى المدرس المؤهل لإعداد مواطن مصرى صالح ومنتمٍ لبلده.
نعم تغيرت الناس لكن إلى الأسوأ.. هكذا قلت لصديقتى وأضفت: كما قام الإعلام بدور كبير فى نشر الفوضى واختلال الموازين، وأصبح الصوت العالى فى البرامج هو الذى يكسب فى معركة التراشق بالألفاظ، وأصبح الرقى فى التعاملات كأنه من زمن فات ولن يعود، ويبقى أن الدولة فى حاجة لأن تدرك أننا فى حاجة إلى تعظيم دور المثقفين والمفكرين والعلماء والمتفوقين ليصبح المجتمع أكثر استقرارًا وتعقلًا وتحضّرًا.
وطال حديثى مع صديقتى حتى كاد المعرض يغلق أبوابه.. واتفقنا على لقاء قريب.. لكننا اتفقنا على أننا فى حاجة إلى عودة المبادئ النبيلة والقيم المصرية إلى مجتمعنا، والتى نكاد نفقدها، وهى مهمة شاقة وفى حاجة إلى تكاتف مجتمعى لإعادتها، أما بالنسبة لى ففى يقينى أن الذين يغيرون جلودهم والذين لا يملكون بوصلة لتسيير حياتهم بشكل ناجح وشريف هم هؤلاء الذين لا يمتلكون القدرة على التحلى بالمبادئ النبيلة والقيم العليا، وهم أكثرية فى مجتمعنا.