رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا أتجمل ولا أتعطر لإرضاء رجل أو إسعاد زوج




ما أجمل أن تكون «الكلمات» قَدَرى.. وطرقات اللغة بيتى.. ما ألذ أن أقضى العُمر، فى اصطياد «الكلمات»، لا العرسان.. وأن أجلس بالساعات أمام الصفحات البيضاء لأكحلها بالحبر الأسود لا أمام المرآة أتجمل وأتعطر وأتزوق وأزيل الشَعر الزائد لإرضاء «رجل» أو إسعاد «زوج» أو التنافس المضحك الذى تمخض عنه فكر الذكور فيتكرم القدر ويمنحنى لقب ملكة العرب أو ملكة جمال كوكب الأرض، وتنهال علىّ عقود التمثيل فى السينما وعروض الأزياء وتقديم برامج ساخنة فى الفضائيات، وعمل إعلانات الصابون والزيوت فى التليفزيونات والسفر درجة أولى ومجانًا لكل العالم.
ما أحلى أن أقوم بتفصيل «الكلمات» على مقاسى وذوقى ومواسم عواطفى وفصول أمزجتى «يرتديها الكون» يصبح أكثر بريقًا ويرسل امتنانه بإلهامى المزيد من «باترونات» الأبجدية، والوعد أن يمدنى أبدًا بجميع «أقشمة» اللغة، لا أن أقوم بتفصيل ملابس لأطفال لا يحملون إلا اسم الأب غير المؤكد ويلقون باسم الأم المؤكدة فى سلة النفايات والفضلات والسخرية والاتهام، لكن لا بأس من شراء هدية لها تنسيها أنها «تخرس»، حين يتكلم ذكر البيت المُهاب.
ما أمتع اللحظات التى تأخذنى إلى «كلمات» تعرى الكذب.. تكشف الأوصياء على عقول النساء المستأجرين أجساد النساء أبد الدهر، لإطفاء شهوات مكبوتة، حيث إن الكبت من الثوابت التى ترسم هويتنا ومن الوفاء والواجب والأخلاق القويمة والرجولة الحرص على استمرارها وترميمها وتبريرها، لتظل راسخة تميز مجتمعاتنا ذات الفضيلة المحورة من كفار الأرض جميعًا.. فضيلة متآمر عليها من البلاد المنحلة لكى تفسد وتتدهور أخلاقنا فنصبح منحلين مثلهم.
لا عندنا كَبت ولا عُقد ونضيع ويضيع إسلامنا، هذا كلام الذين يضحكون علينا بالطبع لأنهم يحرمون علينا علنًا كل شىء ممتع وجميل، وفى الخفاء يحللونه لأنفسهم، وما أروع سكون الليل مع «كلمات» تفضح لا تستر.. عملًا بالمقولة الصوفية: «اللهم أدعوك لكى تفضحنا لا أن تسترنا، حتى يتبين الطيب من الخبيث». ألستم معى أن طالب «الستر»، هو حقًا «المفضوح»؟ وأن الذى يطلب الفضيحة ليس لديه حقًا، ما يفضحه؟
كم أنا محظوظة لأن «الكلمة»، هى بدايتى ومصيرى ومثواى الأخير. شكلتُ «الكلمات»، وأنا جنين لم يتشكل بعد. وحينما كنت أضرب عن الرضاعة أو أصر على البكاء أو أظل «أحرك وأفرك»، كانت أمى تسرع وتحضر لى ما يسكتنى ويهدئنى ويجفف دموعى وليس عروسة بلهاء لأتدرب على الأمومة المقدسة التى لا أحبها ولا أقدسها.. وليست لعبة ذكورية تمهدنى لأصبح فى عصمة رجل.. ولا تفصل أمامى تلك الحركات البهلوانية المضحكة التى تعجب الأطفال لكنها تسرع وتحضر لى القلم والأوراق.
نعم.. كنت «أشخبط»، وأملأ كل الأوراق، بصور غير مفهومة. عندما أفكر الآن، أشعر بأننى عبرت عن تمردى، كتبت أجمل أشعارى، تخيلت عالمًا أعدل وأجمل، داخل تلك «الشخبطة»، ورسمت مصير حياتى، فى تلك الصور التى لم تكن تعنى إلا شيئًا واحدًا.. سأكبر لأصبح كاتبة.. وحرة.. وشاعرة لا يعترف بها كهنة الشعر، وامرأة لا تعترف بالنساء والرجال، المقيمين فى الفنادق الذكورية ذات الخمس نجوم.
كم أنا سعيدة الحظ، لأن الكتابة اختارتنى لأن أكتبها وأفعلها وأمجدها وأشتهيها وأعيش معها وأهب لها نفسى وحياتى. لا أتقن شيئًا مثل خلط مقادير ومكونات اللغة، لأصنع أشهى فطائر الحوار والجدل والتأييد والهجوم والصدام والدهشة.
كل شىء حولنا فى الحياة، «كلمة».. هى البدء وهى المنتهى. «الكلمة»، من أجلها تصنع الأوراق والأقلام وتؤسس الصحف وتنشأ المكتبات والمعارض.
الكتاب، حتى لو كان مجلدًا من ألف صفحة أو موسوعة ضخمة، هو فى النهاية يقول «كلمة».. فى النهاية يرسل لنا، عبر آلاف السطور، «كلمة» واحدة. كثير من الناس، يقرأون جيدًا، الألف صفحة، أو المائة صفحة من الكتاب، يحفظونه من الغلاف إلى الغلاف، ومع ذلك عجزوا عن التقاط «الكلمة» التى من أجلها قام المؤلف أو المؤلفة بجهد كتابة الألف أو المائة صفحة وأى كاتب، أى كاتبة، رغم كثرة مؤلفاته، يختصر فى «كلمة».
والكلمات مثل البشر، مثلما هناك «كلمة» مضيئة.. تنير الدروب.. متوهجة بالتجديد، مولعة بالتغير، صادقة من القلب، مهمومة بالتنوير، مؤرقة بالعدل، باحثة عن الحرية.. شجاعة.. تحفظ كرامتها.. تصون كبرياءها، تضع تفردها، غايتها الجوهر لا الشكل، لديهـا صلابة.. ممتلئة بالإرادة.. ساحرة الإلهامات، مرحة الحروف.. هناك أيضًا المرأة أو الرجل الذى يتمتع بهذه الصفات والعكس صحيح. فمثلما هناك «كلمة» معتمة تظلم الطرق، أطفأها النظر إلى الماضى.. حريصة على الجمود.. منبعها الفم لا القلب.. تشتغل على التعتيم.. ترادف الظلم، هناك البشر «المعتمون»، «جامدون»، «منطفئون». وبكل أسف، فإن هؤلاء «المعتمين والجامدين والمنطفئين»، هم الذين يتصدرون دائمًا المشهد الثقافى والإعلامى والفنى، ويقاتلون لفرض «عتمتهم وجمودهم وانطفائهم»، على حركة الحياة نحو التقدم والعدل والحرية.
من بستان قصائدى
بعد سنوات طويلة من الكتابة.. أتقاضى ما يبقينى على قيد الحياة
لم أغضب يومًا ولم أحتج.. ولم أنسحب
فأنا أحب الكتابة.. أكتب لألف سبب
ليس من بينها الثراء.. لكننى أحب أيضًا العدل
أحب أيضًا تقدير الكلمة والكاتبة.. أحب أيضًا أن تُمجد الكتابة
كم يحزننى أن ترتفع كل الأسعار.. إلا الكلمات
كانت وما زالت أرخص الأشياء.