رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دا سيلفا «ع الأسفلت».. مؤقتًا


سيرا على قدميه، خرج لويس ايناسيو لولا دا سيلفا، الرئيس البرازيلي الأسبق، مساء الجمعة، من مقر الشرطة الفيدرالية، بعد سجنه لأكثر من عام ونصف، في قضايا فساد. وكان في استقباله حشد من أنصاره، عانق بعضهم وحيّا الآخرين بقبضة مرفوعة!.
الرئيس البرازيلي الأسبق، كان يمضي عقوبة السجن لثماني سنوات وعشرة أشهر، في سجن فيدرالي بمدينة كوريتيبا جنوبي البلاد. ولا تزال هناك محاكمات مستمرة، في ست قضايا أخرى، متعلقة أيضًا بالفساد وغسل الأموال. لكنه استفاد من قرار أصدرته المحكمة العليا، مساء الخميس، يتيح له ولحوالي خمسة آلاف سجين، الخروج من السجن، إلى أن يستنفدوا كل درجات التقاضي.
دا سيلفا، كان شخصية عام ٢٠٠٩، بحسب جريدة «لوموند» الفرنسية. وفي السنة التالية، كان الزعيم الأكثر تأثيرًا في العالم، طبقًا لتصنيف مجلة «تايم» الأمريكية. وفي أيام أكثر سوادًا من أيامنا تلك، انتشرت في فضاء وخلاء مصر المحروسة أساطير كثيرة عن التجربة البرازيلية وجمالها وحلاوتها، وعن عظمة وعبقرية ونزاهة صانعها، الرئيس البرازيلي الأسبق، ‏وكان لدينا مرشحون للرئاسة لا تخلو أحاديثهم من ذكر اسم هذا الرجل عمّال على بطّال. لكن في ٢٠١٦، أعلنت النيابة العامة البرازيلية، أنه كان «القائد الأعلى لشبكة الفساد في شركة النفط الوطنية بتروبراس».
في مؤتمر صحفي عقده المدعي العام ديلتان دالانيول، منتصف سبتمبر ٢٠١٦، أوضح أن شبكة الفساد لم تكن تقتصر على «بتروبراس»، بل امتدت لتشمل كلا من فرعها أليتروبراس ووزارتي التخطيط والصحة وبنك الادخار الحكومي «كايشا إيكونوميكا» وهيئات حكومية أخرى على الأرجح. وأكد المدعي العام أن الرئيس الأسبق المتورط في «فضيحة الفساد الأضخم في تاريخ البرازيل على الإطلاق» حصل «رشاوى» بقيمة ٣.٧ مليون ريال برازيلي (١.١ مليون دولار)، بالإضافة إلى مكاسب عينية أخرى. وأشار إلى أن فساد المجموعة النفطية أضاع على الدولة أكثر من ملياري دولار استفاد منها عشرات السياسيين من عدد من الأحزاب ومتعهدون في مجال الأشغال العامة وعدد من مديري المجموعة.
هذا هو «المناضل» الذي كان اسمه، في الأيام الأكثر سوادًا من أيامنا تلك، منتشرًا مع أساطير كثيرة عن تجربته، رددها «مناضلون» من النوع نفسه. والغريب، أنه تقدم بأوراق ترشحه في انتخابات الرئاسة البرازيلية التي جرت في أكتوبر ٢٠١٨، ورفضت المحكمة الانتخابية العليا ترشحه.‏ لكنه، كعادة «المناضلين» من هذا النوع، أعلن أنه «سيُناضل بكل الوسائل» من أجل ترشّحه، وأنه سيلجأ إلى «الأمم المتحدة»، التي سبق أن أوصت لجنة حقوق الإنسان التابعة لها بـ«احترام حقّ لولا في الترشّح» كعادتها، دائمًا، مع «المناضلين» من هذا النوع!.
ما يثير الدهشة هو أن استطلاعات الرأي، وقتها، أكدت أن الرجل لا يزال هو ‏السياسي الأكثر شعبية في البرازيل، وأنه الأوفر حظًا للفوز في الانتخابات الرئاسية التي حالت إدانته في قضايا الفساد دون قبول ترشحه فيها. وربما تعود نتائج تلك الاستطلاعات إلى مستوى التعليم المتدني هناك. إذ كشفت أحدث إحصائية رسمية متاحة عن أن ٤٣٪ فقط هم من يكملون تعليمهم المتوسط، لأن الأطفال يضطرون إلى ترك الدراسة في سن عشر سنوات، بحثًا عن أي مصدر رزق ‏لإعالة أسرهم. أما من يكملون تعليمهم الجامعي فلا تزيد نسبتهم على ٨٪. وفوق ذلك، تعاني الجامعة الاتحادية، هناك، من تدنّي مستوى خريجي المدارس الثانوية، الذي يؤدي بالتبعية إلى ارتفاع نسب الرسوب!.‏
هذه الإحصائية تكشف جانبًا من زيف ما تم الترويج له من أساطير عن التجربة البرازيلية. وسبق أن توقفنا أمام حالة الانفلات الأمني في البرازيل، وبالذات في مدينة «ريو دي جانيرو» العائمة على سبعمائة حي فقير، تخضع كلها لسيطرة عصابات لديها أسلحة لا تستخدمها الدول إلا في شن الحروب. وكنتيجة طبيعية،  شهد جيمس ماتيس، وزير الدفاع الأمريكي السابق، شخصيًا، واحدة من تلك الحوادث، خلال زيارة رسمية إلى البرازيل، منتصف أغسطس ٢٠١٨، مع أنه كان يقيم في أحد فنادق «حي الأثرياء» بالقرب من شاطئ «كوباكابانا». ‏وفي تصريحاته للصحفيين المرافقين له، أرجع «ماتيس» إطلاق النار بالقرب من الفندق الذي أقام فيه إلى غياب ما سماه «الأمن التوافقي»، الذي لن يتحقق، وفق قوله، ‏إلا حين يقوم المجتمع كله بمساعدة الشرطة حتى تتمكن من إحكام السيطرة على «الخارجين على القانون».‏
وتبقى الإشارة إلى أن الرئيس البرازيلي الحالي جايير بولسونارو، وصف دا سيلفا بـ«الحقير» ودعا «المحبين للحرية»، إلى عدم الاكتراث به. وفي حسابه على «تويتر» كتب بولسونارو، أمس السبت، أن دا سيلفا «حر مؤقتًا، لكنه مدان»، استنادًا إلى أن حكمًا ببراءته لم يصدر، وأن العقوبة لم تسقط بعد.