رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الحراك العراقى وهزيمة قاسم سليمانى


موجة الاحتجاجات الجديدة فى العراق بدأت ٢٥ أكتوبر، وأوقعت قرابة ٢٦٠ قتيلًا و١٥ ألف مصاب، بعد أسبوعين من انتهاء موجة مماثلة، قتل فيها ٢٠٠، وجرح ٦٠٠ الاحتجاجات استهدفت منافذ المنطقة الخضراء ببغداد، وامتدت لمحافظات الجنوب والوسط، مطالبة بإصلاحات حكومية تقضى على الفساد والبطالة وتوفر فرص عمل. الجديد، هو تجسيد عداء المحتجين لإيران؛ اقتحموا قنصليتها فى كربلاء، أحرقوا جزءًا من جدارها، رفعوا العلم العراقى عليها، وهتفوا «إيران بره بره».. فى بغداد أحرقوا العلم الإيرانى.. وفى النجف غيروا اسم شارع المطار الدولى، من «شارع الإمام الخمينى» إلى «شارع شهداء ثورة تشرين».. نبذ النفوذ الإيرانى أضحى توجهًا عامًا، خاصة بين الشيعة، وهو نفس ما يحدث فى لبنان.
المسئولون الإيرانيون أصابهم الجنون، وجهوا الاتهامات لأمريكا والسعودية وإسرائيل بالتآمر على العراق ولبنان؛ خامنئى المرشد الأعلى، واعظى مدير مكتب روحانى، ربيعى الناطق الرسمى للحكومة، جعفرى مساعد قائد الحرس، وعبداللهيان مستشار رئيس البرلمان.. تأكيد خامنئى أن مطالب المتظاهرين لن تتحقق إلا فى إطار القانون، يعكس قلقًا، ويعمق الرفض لتدخلات بلاده، والأخطر أنه يحرك عوامل القهر لدى الشارع الإيرانى، الذى لم يهدأ إلا من فترة قصيرة.
قاسم سليمانى قائد فيلق القدس توجه لبغداد فور اندلاع الاحتجاجات، ترأس اجتماعًا أمنيًا بدلًا من عادل عبدالمهدى رئيس الوزراء.. تجسيدًا للتدخل الإيرانى الفج فى الشئون الداخلية للعراق، والانتهاك الصريح لسيادته.. وجه خلاله قيادات «الحشد الشعبى» نحو الاستمرار فى دعم حكومة عبدالمهدى، وإعطائها فرصة لإجراء إصلاحات تهدئ الشارع، محذرًا من أن الإطاحة بها ستكون بداية تغييرات دراماتيكية تمس وضع «الحشد» ونفوذه داخل الدولة.. فى اليوم التالى أصبح التعامل مع المتظاهرين أشد ضراوة، وارتفعت أعداد القتلى وحالات الشلل. منظمة العفو الدولية «أمنيستى» فسرتها بإطلاق ملثمين باللباس المدنى لـ«نوعين غير مسبوقين» من القنابل المسيلة للدموع، وقنص المحتجين بالرصاص الحى.. الناطق باسم القائد العام للجيش، أكد أن القوات حريصة على أرواح المتظاهرين، لكن هناك من يفتعل الفتنة، ويحاول اصطناع صدام معهم.
الاحتجاجات أحدثت ارتباكًا نشَّط آليات العمل بمؤسسات الدولة، تحالف «سائرون» الذى يقوده زعيم التيار الصدرى مقتدى الصدر، أعلن عن تحول نوابه إلى كتلة معارضة، ستعتصم داخل البرلمان لحين الاستجابة لمطالب المتظاهرين، ودعا الكتل السياسية أن تحذو حذوه.. استقال خمسة نواب من المجلس ينتمون للحزب الشيوعى، احتجاجًا على عدم تجاوب الحكومة مع مطلب التغيير، داعين لحكومة كفاءات، وانتخابات مبكرة بعد تغيير شامل للمنظومة الانتخابية وتشريع قانون انتخابات عادل.. البرلمان اتخذ قرارًا بحل مجالس المحافظات، وخول إلى المحافظين إدارة الأمور المالية والإدارية واستلام الذمم من مجلس المحافظة تحت إشرافه لحين إجراء الانتخابات.. وألغى جميع امتيازات ومخصصات الرئاسات الثلاث وأعضاء البرلمان وكبار المسئولين والمستشارين ووكلاء الوزارة والمدراء العامين والهيئات المستقلة والسلطة القضائية وهيئة النزاهة والمحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى والمحافظين ومن هم بدرجتهم.. وأوصى بتشكيل لجنة لتعديل الدستور تقدم توصياتها خلال أربعة أشهر.. إجراءات إصلاحية جيدة، بعد فوات الأوان.
رئيس البرلمان رفع الحصانة عن نفسه وعن وكيليه، لتشجيع بقية النواب على ذلك، حتى تتاح للجهات القضائية المعنية بالفساد فرصة التحقيق دون عوائق، ويستعيد المجلس ثقة الرأى العام، لكن مجلس القضاء الأعلى لم ينتظر تجاوب النواب، ووجه المحاكم بتنفيذ إجراءات التحقيق مع النواب المطلوبين فى جرائم الفسادين المالى والإدارى دون استئذان البرلمان لرفع الحصانة، وشدد على التنفيذ المباشر لمذكرات القبض أو الإحضار.. نواب البرلمان تقدموا بطلبات استجواب لرئيس الوزراء ولوزراء النفط والكهرباء والصناعة والمالية، وهو إجراء غير مسبوق، لكن اتخاذه تحت ضغط الشارع لم يفقده تأثيره فحسب، بل أغرى بزيادة الضغط، بعد أن ثبتت فاعليته.
رئيس الوزراء شكل قيادة جديدة للعمليات المشتركة برئاسته، أشرك فيها «الحشد»، ومنحها صلاحيات واسعة لاستخدام إمكانيات الدولة، ومواجهة التهديدات الداخلية والخارجية لتحقيق الأمن والاستقرار، والتنسيق مع الجهات الدولية التى تقدم دعمًا للقوات العراقية، مما أثار الغضب، بسبب تهميشه دور الوزراء ورئاسة الأركان، وتوسيع صلاحيات «الحشد».. عبدالمهدى أمر قوات النخبة لمكافحة الإرهاب بالانتشار فى شوارع بغداد واستخدام جميع التدابير اللازمة، لحماية المنشآت السيادية والحيوية، ومنع المتظاهرين من عبور الجسور للوصول للمنطقة الخضراء.. تم حجب الإنترنت، وفرض حظر التجوال، وقطع الطرقات بين المدن والأحياء، وشن حملة ترهيب ضد الصحفيين الذين يغطون التظاهرات ميدانيًا، تضمنت خمسين مذكرة اعتقال.. الارتباك سيد الموقف. الدور الإيرانى فى مواجهة الاحتجاجات، اعتمد على دس عناصر «الحشد» بين المتظاهرين.. تهتف ضد الصدر والمرجعية الدينية، لإثارة الفتنة، أو توفير مبررات للقمع.. ونشرت عناصر أخرى ترتدى الزى المدنى مسلحة بالسكاكين داخل الأزقة، تعترض المواطنين وتفتش هواتفهم، وتجبرهم على العودة لمنازلهم.. قامت باختطاف بعض النشطاء واغتالت البعض الآخر.
كل الأطراف ستخرج خاسرة من التصعيد الراهن، عدا مقتدى الصدر، الذى طالب رئيس الحكومة بالدعوة لانتخابات مبكرة بإشراف أممى وتلبية مطالب المحتجين.. عبدالمهدى رد مستنكرًا، ودعاه للتنسيق مع هادى العامرى قائد «تحالف الفتح» صاحب ثانى أكبر كتلة برلمانية بعد الكتلة الصدرية.. الصدر دعاه للتعاون فى سحب الثقة عن رئيس الوزراء، وتغيير مفوضية الانتخابات وقانونها وإصلاح الدستور. العامرى رد سريعًا بالموافقة، ما حسم الموقف، خاصة بعد تأييد «ائتلاف النصر» بزعامة حيدر العبادى رئيس الوزراء السابق لسحب الثقة من الحكومة، وتشكيل حكومة مؤقتة لتسيير أمور الدولة.
الرئيس برهم صالح تواصل مع الصدر بشأن إقالة الحكومة، وعقد اجتماعًا لرؤساء الكتل السياسية، أبلغهم بقبول عبدالمهدى الاستقالة.. لكن العامرى تراجع استجابة لضغوط قاسمى سليمانى، ما أفشل محاولة إسقاط الحكومة، ما زاد الأزمة تعقيدًا، ودفع الصدر لتأكيد عدم تحالفه مع أى كتلة برلمانية مستقبلًا.. الصدر نزل إلى الشارع وسط المحتجين بالنجف، ووجه اتهامًا صريحًا للحكومة بمحاولة زج الحشد فى مواجهة مع الجماهير، فهاجم المتظاهرون مقراته.. ودعا إيران لعدم التدخل فى الشأن الداخلى للعراق: «أيها الجيران، اتركوا الشعب يقرر مصيره»، سانده السيستانى فى خطبة الجمعة، وممثله فى كربلاء أكدها صريحة «ليس لأى طرف إقليمى أن يصادر إرادة العراقيين أو يفرض رأيه عليهم».
التغيير فى العراق أصبح قاب قوسين أو أدنى، لأن الحراك بلغ مرحلة اللا عودة.. قاسم سليمانى خسر معركة إيران فى العراق، لأنه أخفق فى احتواء رفض الشارع النفوذ الإيرانى، وفشل فى حماية عملائه الذين ينهبون الثروات، ويبددون خيرات العراق، والأهم فشله فى الإبقاء على تحيز الأغلبية الشيعية الطائفى لإيران، وهو ما راهنت عليه طهران منذ ٢٠٠٣.. التضامن الوطنى ضد النفوذ الإيرانى فى العراق ولبنان، هل يزيح الكابوس؟!.