رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة.. لُحمة في نسيج التنمية المستدامة!


بات لزامًا علينا نحن أهل اللغة المشتغلين بها، أن ننشغل بقضايا تطورها ككائن حي يتطور دومًا بملاحقة كل المستجدات في عالم التكنولوجيا، ومتابعة تعريب كل المصطلحات المتداولة في هذا العالم الجديد، فنجد أن "الميديا" تعبر عن مفهوم "الوسائط" والـ "كيبورد" هي "لوحة الكتابة"... إلخ هذه العبارات التي تشكل أهمية التعامل مع لغة العصر المتسارعة.
ففي الحياة العامة والارتباطات بين الدول، ظهرت مصطلحات "العون اللوجستي" و"التنمية المستدامة" وغيرها من العبارات التي اجتهد أهل اللغة في تفكيكها، لتسهيل التعامل الفكري لفهم الألفاظ ودلالاتها حديثة التداول، الأمر الذي سينعكس بالضرورة على حتمية ترابط حلقات سلسلة المعاملات اجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا، وربط كل هذه المفاهيم بالثقافة العامة من أجل تطوير وإنماء المجتمعات الفقيرة، لتكون حجر الزاوية الأساسي في ارتقاء الفكر الإنساني ومشاركته في إعلاء شأن الوطن في كل المجالات.

والمقصود بالمجتمعات الفقيرة، هو الفقر الثقافي والمعرفي والإلمام بكل التغيرات الطارئة على الساحة، وليس بالضرورة الفقر بالمعاني الجامدة المتعارف عليها، ولعلنا حين نتطلع إلى استثمار تراث الحضارة المصرية الممتدة عبر التاريخ، فلابد أن نشير إلى أن الحضارة المصرية لها فرعان أساسيان: فرع ملموس على أرض الواقع يتمثل في عظمة التشييد والعمارة في الأهرامات والمعابد الفرعونية بكل فنونها المذهلة المنقوشة على جدرانها، وفرع معنوي تمثله الثقافة العامة وتجلياتها في إبداعات الأدباء والشعراء والفنانين وتأثيرها على الذات المصرية منذ القدم وحتى عصرنا الحديث، وهذا هو المقصود بالترابط والتلاحم بين الأجيال، وهو ما يمثل ترجمة لتعبير "التنمية المستدامة" بالمفهوم الجديد الذي نلقي الضوء عليه ونحاول توضيحه.

ولعله من الأهمية بمكان أن نلقي الضوء المكثف على أن احتياجات الإنسان في عصرنا الحديث، وفي ظل التسارع الرهيب في حقل التكنولوجيا وعالم الفضاء المفتوح، لم تعُد التنمية الاقتصادية والحلم بالملكية للفيلا والسيارة والرصيد البنكي، هي الغاية الوحيدة التي تشبع الرغبات والأماني والأحلام البرجوازية، بل صار الفرد داخل المجتمع في أشد الحاجة إلى إشباع الرغبات الأخرى التي أُعدها من - وجهة نظري - الأكثر أهمية من طموح أو طمع التطلعات المادية، بل صارت أمنياته تتلخص في تحقيق التطلعات الأدبية التي تثري العقل والفكر والوجدان، كي تعطي له الثقل والاحترام الحقيقي بين بني جلدته وأمام العالم الخارجي.

من هذا المنطلق.. جاء التفسير الصحيح، أو هو الأقرب إلى الصواب، لما سمِّي بمصطلح "التنمية البشرية المستدامة"، وتحقيق هذا المفهوم يتطلب من الدولة ومنظمات المجتمع المدني المؤمنة بالفكرة، وضع الخطط للمستقبل على المدى القصير والطويل ومتابعة تحقيقها على أرض الواقع، ومتابعة تحقيق مؤشراتها الإيجابية على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والثقافية، والرصد المستمر الذي يضمن تشكيل "ضفيرة" لا تنفرط عن "لُحمة ونسيج المجتمع"، والأمل المرجو من كل الجامعات الأكاديمية على أرض الوطن ضرورة التركيز والرصد للقدرات المعرفية وتطويرها فنيًا وجماليًا، ونثر كل الجماليات الثقافية في متون الكتب والأبحاث العلمية ، خاصة داخل المجتمعات المهمشة الموجودة بأطراف الريف والنجوع والكفور، سواء في دلتانا أو الصعيد في الجنوب.

كل ذلك يضمن تحقيق الهدف الأسمى من التنمية البشرية المستدامة، ومحاولة توعية البشر أنها ليست مجرد الزيادة في الإنتاج وزيادة حجم الاستهلاك النمطي، بل العمل على توصيل المعاني السامية للحياة بأن "الجمال" ليس في ملء البطون، بل الجمال الحقيقي هو إثراء العقول باستيعاب كل المخزون المعرفي للحضارة والتراث، ليعيشوا الحياة الحقة بكل الاستفادة مما أبدعته البشرية من تميز ثقافي ولغوي وعقائدي، لفتح آفاق المستقبل باستغلال المواهب والارتقاء بالقدرات، عبر الخطط والتخطيط الصحيح للمستقبل.

لن يتأتى تحقيق هذا الأمل المنشود إلا بالاعتماد على الاكتفاء الذاتي بطاقتنا البشرية، وقيام الصناعات البيئية بالتمويل الداخلي غير المعتمد على المنح الخارجية والهبات، ويجب التنبيه إلى خطورة الإمداد بالأموال عن طريق الاستدانة أو القروض؛ لأنها تأكل في طريقها الأخضر واليابس، وتقضي على طموحات تعزيز التنمية المستدامة كما نريدها.

لقد حان الوقت - إن لم نكن تأخرنا كثيرًا - لوضع تصورات فاعلة لربط الثقافة بعناصر التنمية، فهما صنوان لا يجب أن يفترقا!

فالثقافة بأبعادها الرائعة وانعكاساتها على العقل الجمعي، هي التي تدفع عجلة الإنتاج وتعمل على زيادته المضطردة، شريطة الابتعاد عن الأفكار المتخلفة التي تعرقل مسيرة الشعوب المتطلعة إلى التقدم، والابتعاد عن الثقافة بمفهومها العلمي في كل المجالات، ستكون هي منصة الانطلاق لنلحق بركب الأمم التي تقاعسنا عن السير في ركابها.. ونحن من قدمنا لهم منذ الأزل كل مفاتيح الانطلاق والتقدم.. ونحن أولى بهذا منهم.

ولن آتي بالجديد.. إذا أعدت النداء بأهمية الثقافة وارتباطها بكل المراحل التعليمية في المدارس والجامعات، والمناداة بسرعة تحقيق الآليات التي تسهم في غرس بذور التوعية في الأذهان، للارتقاء بسلوكيات الأفراد داخل الأسرة والمجتمع.. الأمر الذي سيأتي بثماره المرجوَّة على حركة الوطن والمواطن في كل المحافل الداخلية والخارجية، والبدء في العمل على محو كل مظاهر الأميَّة بكل أشكالها: الأبجدية والإعلامية والوظيفية والأدبية والفنية، والقضاء على كل من يحاول أن يدفع بنا خارج سياق الزمن والتطور، بكل الأفكار الرجعية التي أكل عليها الدهر وشرب ! وغدًا.. هو الأجمل بالتأكيد.