رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النفط.. كلمة السر فى تشابكات سوريا




بات النفط والغاز العاملين الأكثر تأثيرًا، خلال عام ٢٠١٩، فى تحديد أنماط تفاعلات الشرق الأوسط، سواء داخل الدول أو فيما بينها، وهو ما عكسته جملة من الشواهد، منها صراعات السلطة فى بؤر الصراعات العربية، لا سيما بين طرفى الصراع الليبى «حكومة الوفاق وقوات الجيش الوطنى»، واستمرار تصاعد الخلاف بين الحكومة المركزية وأحد الأقاليم، مثلما هو قائم بين حكومة بغداد وإقليم كردستان، بشأن أحقية الأخير فى تصدير النفط، وتأثير العقوبات الغربية فى فرض ضغوط على اقتصاديات القوى الإقليمية، على نحو ما تعبر عنه السياسة الأمريكية المعروفة بتصفير الصادرات النفطية الإيرانية، وتشكيل تكتل من قوى دولية وإقليمية لمواجهة سلوكيات قوى إقليمية أخرى، مثل اتفاق تطوير التعاون فى مجال الطاقة والبنية التحتية لمواجهة أنشطة تركيا فى شرق المتوسط.
إلا أن تأكيد الولايات المتحدة بأنها ستتصدى لأى محاولة لانتزاع سيطرتها على حقول النفط السورية، يكشف عن عكس ما كُنا نعتقد من أن الهدف من وجود المدرعات الأمريكية على آبار النفط والغاز الواقعة شرق دير الزور، هو حمايتها من عودة السقوط فى أيدى قوات داعش، التى استطاعت أن تُراكم ثروات هائلة عندما كانت تتواجد فيها، ولكن اعتقادنا هذا لم يكن فى محلّه بعدما أعلن الرئيس دونالد ترامب وضع المنطقة السورية تحت إدارة شركات نفط أمريكية، وتصدير نفطها، وذهاب العوائد إلى الخزينة الأمريكية.ومعروف أن سوريا كانت تنتج نحو ٣٨٠ ألف برميل من النفط يوميًا، وقدرت ورقة عمل صدرت عن صندوق النقد الدولى فى ٢٠١٦، بأن إنتاجها جراء الحرب ونهب نفطها تراجع إلى ٤٠ ألف برميل يوميًا، تتجاوز عائداتها الـ٣٠ مليون دولار شهريًا، بحسب وكالة سبوتنيك الروسية للأنباء. فى نفس الوقت، يواجه الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، تحديًا ماليًا جديدًا فى سوريا بعد سيطرة القوات الأمريكية على المواقع النفطية شمالى البلاد، وصفتها وزارة الدفاع الروسية بأنها عملية «قطع طرق دولية»، تحرم الرئيس السورى، بشار الأسد، من الحصول على الأموال اللازمة لإعادة إعمار سوريا، بعد ثمانى سنوات من الحرب، والتى تقدر الأمم المتحدة تكاليفها بنحو ٢٥٠ مليار دولار، وهى تكلفة لا يمكن للنظام السورى الاعتماد فيها على أى من داعميه الرئيسيين، إيران وروسيا، اللهم إلا إذا نجحت المفاوضات بشأن التغييرات الدستورية فى دمشق، والتى يمكن أن تساعد فى الحصول على أموال من حلفاء واشنطن فى الخليج وأوروبا، الذين أوقفوا المساعدات بسبب علاقات الأسد الوثيقة بإيران، ورفضه تخفيف قبضته على السلطة، عبر إتاحة المجال لجماعات المعارضة. وهنا، لم يعد الصراع الأمريكى الروسى فى سوريا خفيًا، فالسباق إلى الخزان النفطى «محافظة دير الزور» يخفى فى ثناياه صراعًا مكبوتًا بين القوتين العُظميين على امتلاك الأوراق الرابحة، فى سباق التفاوض على مستقبل الحل السياسى فى سوريا أولًا، وامتلاك النفوذ الأكبر فيها لاحقًا. وبينما أرسلت واشنطن ثلاثة أرتال عسكرية، قوامها أكثر من ١٥٠ آلية عسكرية إلى داخل الأراضى السورية قادمة من العراق، للانتشار فى حقول النفط فى محافظتى الحسكة ودير الزور، مع ورود أنباء عن مخطط إنشاء مصافى لتكرير النفط فى حقل العمر النفطى، وقواعد عسكرية فى الباغوز والصور بريف دير الزور الشرقى، أرسلت موسكو بدورها تعزيزات عسكرية إضافية إلى مناطق حدودية مع تركيا، فى الشمال الشرقى.
موسكو، اللاعب الأول والأهم فى الملف السورى، اتهمت القوات الأمريكية ببيع النفط السورى خارج البلاد، مستندة فى اتهامها إلى صور للأقمار الصناعية، تُظهر قوافل من صهاريج النفط تتجه إلى خارج الأراضى السورية، بحراسة العسكريين الأمريكيين، وتؤكد وزارة الدفاع الروسية أن «عائدات تهريب النفط السورى ترسل مباشرة، عبر سماسرة، إلى حسابات مؤسسات أمنية خاصة، وإلى حسابات وكالات الأمن الأمريكية»، وتقول إن واشنطن لا تملك تفويضًا بموجب القانون الدولى أو الأمريكى لزيادة وجودها العسكرى فى سوريا، وإن خطتها ليست مدفوعة بمخاوف أمنية حقيقية فى المنطقة، وترى أن أفعال واشنطن «لصوصية دولة على الساحة العالمية، أما نحن فموقفنا معروف جيدًا. وجود الوحدات الروسية فى سوريا هو فقط الشرعى، بدعوة من القيادة السورية». أما الطرف الثالث فى التشابك السورى وهو تركيا، فقد رفض رئيسها، رجب طيب أردوغان، الإعلان الأمريكى بحماية حقول النفط السورية، بما فى ذلك اقتراح النائب الجمهورى، ليندسى جراهام، باستغلال عائدات النفط الخام للمساعدة فى تمويل العمليات العسكرية الأمريكية فى الدولة التى مزقتها الحرب ضد تنظيم داعش. وقال أردوغان «إنهم- أى الأمريكان- لا يترددون أبدًا فى ملاحقة النفط، فبالنسبة لهم قطرة النفط تساوى دماء الآلاف من الناس»!. وهنا تعكس تصريحات أردوغان مدى رغبته فى الاستفادة من النفط السورى، والحصول على إيراداته لدعم ما سماه «المنطقة الآمنة»، وإعادة توطين ملايين اللاجئين السوريين فى مدن الشمال، وقد تناسى الجميع أن السيطرة على آبار النفط، فى أى بلد، هى من حق وصلاحيات حكومة البلد نفسه، لكن يبدو أن ترامب قد هدم كامل أدبيات الخطاب الأمريكى السابق.. كيف؟
لم تترك واشنطن توجهاتها فى هذا الصدد موضوعًا للتحليل، بل قدمت نفسها مباشرة باعتبارها قيّمة على النفط السورى، بل إن لها «حصّة» فيه، ستحميها بالقوة العسكرية إن لزم الأمر، وهذا ما لوحت به «البنتاجون» على لسان وزير الدفاع، مارك إسبر، حين قال: إن أمريكا قد تلجأ لخيار القوة، لمواجهة أى قوى تحاول السيطرة على حقول النفط شرق سوريا. هذه الاستراتيجية الجديدة، تشكل تحولًا كاملًا للولايات المتحدة التى كانت تبرر وجودها اللا شرعى على الأرض السورية بمكافحة تنظيم داعش، ولكن سرعان ما رأى ترامب ضرورة سحب قواته من هناك، مُحدثًا اختراقًا كبيرًا، باحتلال القوات التركية منطقة واسعة من شمال سوريا، وأصر على أن هذا التحول فوز لواشنطن، وأنه يفى بوعده بإخراج بلاده من «الصراعات الطائفية والقبلية القديمة». وقال «لندع آخرين يقاتلون من أجل هذا الرمل الملطخ بالدماء». لكن بعض الجنود سيبقون فى حقول النفط السورية، «إننا نضمن أمن النفط، وبالتالى سيبقى عدد محدود من الجنود الأمريكيين فى المنطقة، حيث هذا النفط».
يبقى القول، إن الدور المستمر الذى يلعبه النفط فى الاقتصاد العالمى، ليس إلا أحد الأسباب التى تمنع الولايات المتحدة من الابتعاد عن الشرق الأوسط، كما قد يتمنى البعض، لكن أن تمارس إدارة أمريكية هذه السرقة علانية، وهى التى تدعى رئاسة العالم الحُر، وتُعزز الدول ثم تحتلها تحت ذرائع الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون، فهذا أمرٌ صادم، يمكن تسميته «احتلال غير شرعى»، ونهب للثروات غير قانونى، الأمر الذى قد يفتح المجال لإطلاق حركة مقاومة، معظم عناصرها من أبناء المنطقة، مثلما حدث بعد الاحتلال الأمريكى للعراق. ومع هذا، ربما يحتاج الأمر لمزيد من الانتظار لمعرفة أين تتجه الأمور، إذ إن الساحة السورية تتوسع لصالح حكومتها، وخيوط الملف باتت أكثر وأكثر إحكامًا بقبضة موسكو، ومن المستبعد أن تُسلم دمشق وموسكو بالسيطرة الأمريكية على حقول النفط السورية، أقلّه لأهميتها فى معركة إعادة إعمار الدولة المنكوبة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.