رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تصل إلى المعانى العميقة فى الحياة؟


لم يخلق الله تعالى الكون بما فيه عبثًا، حاشاه ذلك، وهو الخالق الأعظم، المدبر والمنظم لكل حركة فى الوجود، فلا يكون إلا ما يريد، وفقًا لغايته ومراده، أرسل الأنبياء إلى الناس مبشرين ومنذرين، حاملين الخير من السماء إلى أهل الأرض، رسلًا مبشرين ومنذرين، «فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا».
الحياة الإنسانية تحمل فى جوهرها معانى بسيطة وأخرى عميقة، فالإنسان كما هو معلوم مخلوق من جسد وروح، كل منهما من مكان مختلف، ولكل منهما احتياجاته وغذاؤه الذى يختلف عن الآخر.
فالجسد يدرك المعانى البسيطة للحياة وفق احتياجاته.. أكل وشرب «الشبع».. الرياضة واللعب «الترفيه».. الأمان الأسرى.. الضحك.. الحب، أما الروح فإنها لا تدرك إلا المعانى العميقة.. تذوق الروح «الإيمان».. معرفة الله موجد الحياة.. الصفاء الروحى.. الحب المولد للتفانى والتضحية.. السكينة النفسية.. الأنس بالله.. الإيثار.. لذة العطاء.
المعانى البسيطة، جميعنا يدركها بسهولة، لكنها دون المعانى العميقة تفقد قيمتها الحقيقية وحلاوتها وسعادتها الكاملة.. والسعادة بالمعانى البسيطة وحدها لن تجلب لك السعادة، لأنها تكون سعادة عرجاء ناقصة، وذكر الله تعالى والتفكر فيه هو الذى يأخذك يوميًا له ويجعلك تتذوق المعانى العميقة.
والذِكر من أيسر العبادات، وحاجة الإنسان للذكر كحاجته للغذاء والنوم، فالذكر غذاء الروح، وهناك فيض متدفق هائل من أحاديث النبى، صلى الله عليه وسلم، التى تتحدث عن قيمة الذكر.
قال صلى الله عليه وسلم: «أنا عند ظن عبدى بى وأنا معه إذا ذكرنى، فإن ذكرنى فى نفسه ذكرتُه فى نفسى، وإن ذكرنى فى ملأ ذكرتُه فى ملأ خير منهم».
وقال أيضًا: «إذا مررتم برياض الجنة فارتعوا. قالوا: وما رياض الجنة؟ قال: حِلَقُ الذكر»، كما قال عليه الصلاة والسلام متحدثًا عن فضل الذكر: «ما من قوم يذكرون الله إلا حفَّتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة، وذكرهم الله فيمن عنده».
لكن كيف تصل للمعانى العميقة فى الحياة؟
هناك طرق كثيرة للوصول إليها: الخلوة.. عبادة طويلة.. وهى من أقوى وأسهل الطرق.. الذكر مع الفكر يأخذك تلقائيًا لتدركها.. ومن ذلك ذكر «لا حول ولا قوة إلا بالله»، دلالة على اعتراف العبد بعجزه عن القيام بأى أمر إلا بتوفيق الله له وتيسيره.
تحقق بأوصافك يمدك بأوصافه.. ما هى أوصافك؟.. أن تعرف حقيقة نفسك.. عبد ضعيف عاجز فقير إلى الله.. فى تلك الحالة «يمدك بأوصافه».. ما هى أوصافه؟.. الله لا إله إلا هو الحى القيوم.
تحقق بذلّك يمدك بعزته.. تحقق بعجزك يمدك بقدرته.. تحقق بضعفك يمدك بحوله وقوته.. توجه إليه بضعفك يمدك بقوته.. اذهب إليه بذلّك يمدك بعزته.. توجه إليه بفقرك يمدك بغناه.
حين تتوجه إليه بأوصافك، تجد المدد بأوصافه.. قل له: يا قوى مَن للضعيف إلا أنت؟!، هذا الذهاب إلى الله هو العبودية الحقة «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ»، لأن المضطر تحقق فيه صفات العبد الذليل العاجز الضعيف.
عندما تكون فى ورطة، وكل الأبواب مغلقة أمامك، تذهب إليه بعجزك يقول لك: لبيك عبدى لبيك عبدى.. يقول الله تعالى: «أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ».. حياتك كلها منه إليك.
يقول الله تعالى فى الحديث القدسى: «يا ابن آدم أنت تريد وأنا أريد ولا يكون إلا ما أريد، فإن أطعتنى فيما أريد يسرت لك ما تريد، ولا يكون إلا ما أريد، وإن عصيتنى فيما أريد استعصى عليك ما تريد ولا يكون إلا ما أريد».
كانت هناك غزالة حاملًا.. أمامها أسد سينقض عليها، وخلفها صياد هو الآخر يريد صيدها، وحولها نهر.. فكان قرارها العجيب.. جلست فى مكانها تؤدى واجبها.. جلست تلد.. منتهى التسليم لله لم تجر أو تهرب.. اعتمدت على مسبب الأسباب.. فيرى الصياد الأسد، فيقوم باصطياده بدلًا من الغزالة.. لتفرح هى بمولودها وبتسليمها لله.
سلم نفسك لله تعش مرتاح البال.. عندما تحيط بك صعوبة الأقدار والمصائب.. وأنت مظلوم.. تتكالب عليك الهموم والمخاوف والأوجاع.. وتعانى من تعقيدات الحياة.. وتتخبط فى مشاكلها.. ولا تستطيع أن تتخذ قرارًا فى كل أمورك.. البيت.. العمل.. الزواج.. لم يعد لك إلا: لا حول ولا قوة إلا بالله.
ورد فى الأثر، أن عوف بن مالك الأشجعى ذهب إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وقال له: يا رسول الله، إن ابنى مالكًا ذهب معك غازيًا فى سبيل الله ولم يعد، فماذا أصنع؟ لقد عاد الجيش ولم يعد مالك رضى الله عنه قال رسول الله، عليه الصلاة والسلام: يا عوف، أكثر أنت وزوجك من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فذهب الرجل إلى زوجته التى ذهب وحيدها ولم يعد، فقالت له: ماذا أعطاك رسول الله يا عوف؟ قال لها: أوصانى أنا وأنتِ بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فماذا قالت المرأة المؤمنة الصابرة؟ قالت: لقد صدق رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وجلسا يذكران الله بقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وأقبل الليل بظلامه، وطُرِق الباب، وقام عوف ليفتح فإذا بابنه مالك قد عاد، ووراءه رءوس الأغنام ساقها غنيمة، فسأله أبوه: ما هذا؟ قال: إن القوم قد أخذونى وقيّدونى بالحديد وشدّوا أوثاقى، فلما جاء الليل حاولت الهروب فلم أستطع لضيق الحديد وثقله فى يدى وقدمى وفجأة شعرت بحلقات الحديد تتّسع شيئًا فشيئًا حتى أخرجت منها يدىّ وقدمىّ، وجئت إليكم بغنائم المشركين هذه، فقال له عوف: يا بنى، إن المسافة بيننا وبين العدو طويلة، فكيف قطعتها فى ليلة واحدة؟! فقال له ابنه مالك: يا أبت، والله عندما خرجت من السلاسل شعرت وكأن الملائكة تحملنى على جناحيها، سبحان الله العظيم! وذهب عوف إلى رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ليخبره، وقبل أن يخبره قال له الرسول، عليه الصلاة والسلام: أبشر يا عوف، فقد أنزل الله فى شأنك قرآنًا: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا».
مع صعوبة الحياة، تستشعر أنك بحاجة لأن تأوى إلى الله.. تأوى إلى القوى العزيز مالك الملك.. كما تأوى الطيور إلى أعشاشها فتستقر.. حتى عندما نعبد الله، فإنما نعبده بإعانته لنا بحوله وقوته: اللهم اعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. وكان من دعاء النبى، صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذى أذن لى أن أذكره وأن أشكره.