رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشيخ مصطفى عبدالرازق.. المنادى بالحرية الفكرية «٤»




استمر مصطفى عبدالرازق فى التدريس فى الجامعة حتى اختاره محمد محمود باشا ليكون وزيرًا للأوقاف عندما شكّل وزارته فى أبريل ١٩٣٨، وهذه كانت أول مرة تحدث فى مصر وتُعتبر حدثًا تاريخيًا أن شيخًا أزهريًا يصبح وزيرًا، وظل مصطفى عبدالرازق وهو وزير مرتديًا العمامة؛ لأنه كان يرى أنها لا تتعارض، طالما أنه فى مصر.
عين مصطفى عبدالرازق وزيرًا للأوقاف بعد ذلك ٦ مرات. فى وزارة محمد محمود الجديدة التى شكلها فى ٢٥ يونيو ١٩٣٨، وفى وزارة حسن باشا صبرى فى ٢٨ يونيو ١٩٤٠، وفى وزارة حسين سرى باشا فى ١٠ نوفمبر ١٩٤٠، وأيضًا فى وزارة حسين سرى باشا فى ٣١ يوليو ١٩٤١، وفى وزارة أحمد باشا ماهر فى ٩ أكتوبر ١٩٤٤، وللمرة السابعة فى وزارة محمود فهمى النقراشى، وظل وزيرًا للأوقاف حتى تم تعيينه شيخًا للجامع الأزهر. وفى غضون ذلك سنة ١٩٤٠ صدر مرسوم بتعيينه عضوًا فى مجمع فؤاد الأول للغة العربية، وفى سنة ١٩٤١ أخذ لقب الباشوية، فظل شيخًا أزهريًا ووزيرًا وباشا فى نفس الوقت. تم تعيين مصطفى عبدالرازق شيخًا للجامع الأزهر فى ٢٧ ديسمبر ١٩٤٥، وكما يذكر الأستاذ سامى خشبة فى كتابه «مفكرون من مصر»، أنه تخلى عن رتبة الباشوية فور تعيينه شيخًا للأزهر. قبل ما يُقبل تعيينه كانت هناك محاولات لمنعه من رياسة مشيخة الأزهر. المعارضون استندوا إلى قانون الجامع الأزهر بأن شيخ الأزهر لا بد أن يكون من هيئة كبار العلماء، وأن الشيخ الذى ينضم لهيئة العلماء لا بد أن يكون أوفى عدة شروط، من ضمنها: أنه لا بد أن يكون قد تعين قبل ذلك فى وظائف معينة فى القضاء الشرعى أو يكون عمل مدرسًا لمدة معينة فى معهد دينى أزهرى. هذا الشرط كان غير متوافر عند مصطفى عبدالرازق، حيث إنه درس فى الجامع الأزهر مدة قصيرة لا تفى بالشرط بعكس المدة الطويلة التى قام فيها بالتدريس فى جامعة القاهرة.. لحل هذا الإشكال القانونى وافق البرلمان المصرى على قانون جديد، مساواة ما بين التدريس فى الأزهر والمعاهد الدينية والتدريس فى جامعة مدنية. بطبيعة الحال السبب الحقيقى لمعارضة تعيين مصطفى عبدالرازق، كان بسبب فكره المتطور الإصلاحى، الذى لم يكن على هوى الشيوخ المتزمتين وغيرهم من الرجعيين بالإضافة إلى سبب الغيرة منه. كما أن صحيفة «لوموند» الفرنسية نشرت حوارًا مع مصطفى عبدالرازق، وذكر فيه أن فرنسا لها مكانة كبيرة وبذلت جهودًا كبيرة؛ لنشر الثقافة بين المسلمين وأنها لا بد أن تستمر فى تأدية دورها الثقافى. فى تلك الفترة أهدت فرنسا لمصطفى عبدالرازق وسام «جوقة الشرف» من رتبة الصليب الكبير، فخرجت الصحف العربية فى الشام تهاجمه وتزيف وتحور الذى قاله فى مدح فرنسا، ومعها خرجت الجرائد المصرية المعادية له، بنفس التخاريف لتشويه صورته.
بعد سنة فى مشيخة الأزهر اختير مصطفى عبدالرازق أميرًا للحج، وهذه كانت مهمة شرفية كبيرة كان يقوم بها كبار أمراء مصر وقت ازدهارها فى العصور الوسطى، وكانوا يأخذون معهم كسوة الكعبة الشريفة فى المحمل الذى كان يُُسمى «المحمل المصرى». خرج مصطفى عبدالرازق على رأس الحجاج المصريين المتوجهين إلى مكة فى ٢٨ أكتوبر ١٩٤٦، وظل فى الحجاز حوالى شهر، وعاد إلى مصر فى أول ديسمبر ١٩٤٦ وكمل مجهوداته لتطوير وإصلاح الأزهر وسط شيوخ متزمتين ومتربصين به، وظل على الحال حتى ١٥ فبراير ١٩٤٧.. فى هذا اليوم توجه كعادته لمكتبه فى الأزهر ورأس جلسة المجلس الأعلى للأزهر حتى الظهيرة، وبعدها عاد إلى منزله وتناول وجبة الغداء ونام، وعندما استيقظ من النوم توضأ وصلى، لكن وبينما هو يرتدى ثيابه أحس بتعب شديد وهبوط، فنام على السرير، وأحضروا له طبيبًا، لكن قبل أن يصل الطبيب كان قد توفى.
هنا تذكر لنا د. نعمات أحمد فؤاد فى كتابها «أعلام فى حياتنا» الصادر عن دارالهلال فى ٢٠٠١، سبب وفاة الشيخ مصطفى عبدالرازق: «أنه سمع بأذنيه هتاف بعض الطلبة يجرفه فى تيار الغضب فلم يخرج عن وقاره ووقار الإمام.. وعاد إلى بيته حزينًا وبعد ساعات مات بالسكتة القلبية».
فى اليوم التالى شُيعت جنازته وتم دفنه فى مقابر الإمام الشافعى فى مدفن عائلته مع والده حسن باشا عبدالرازق وإخوته، كما أقيمت له فى مدينة المنيا حفلة تأبين وأقامت له جامعة القاهرة حفلة تأبين كبيرة يوم ٢٧ مارس ١٩٤٧.
وصفه طه حسين بأنه كان «أبيًا وكان بارًا وكان سمح الطبع والنفس والقلب»، وإن من خصاله كانت «العناية الدقيقة جدًا بالتفكير أولًا، وبالتعبير بعد ذلك عما فكر فيه».
من أقواله: «إن الذين يخدمون الحرية الفكرية هم خدام الحق وأنصاره، فإن العقول المُستعبدة لا تسمو إلى جلال الحقيقة وجمالها».
من أعماله الجليلة التى تركها لنا أنه جمع محاضراته فى الجامعة، وفى غيرها بعد ذلك فى كتب أشهرها: تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية «١٩٤٤»، الدين والوحى الإسلامى «١٩٤٥»، فيلسوف العرب «١٩٤٥»، المعلم الثانى عن الفلاسفة: أبويوسف الكندى «وهو من قبيلة لها ذكر فى الفتوح، ومنهم من ولى الولايات، ومنهم من تولى القضاء، وكان الكندى عارفًا بالسريانية ينقل الكتب منها إلى العربية»، كما كتب عن أبى النصر الفارابى الذى كان أول من عُنى بإحصاء العلوم وترتيبها فى كتابه «إحصاء العلوم» الذى نشره فى مصر الدكتور عثمان أمين عام ١٩٣١ وفى إسبانيا المستشرق «لانسيا» عام ١٩٣٤، والفارابى علامة من علامات فن الموسيقى، وكتب عن الشاعر أبى الطيب المتنبى، فالأدب العربى لم ينتج غير المتنبى وغير المعرى شاعرًا وفيلسوفًا. ومن فضل المتنبى على الفلسفة أنه بثها فى الشعر يوم كانت تلتمس لها منفذًا إلى العقول والقلوب فى تقية ووجل. ولعل شعر المتنبى كان من أسباب عناية الكُتّاب والشعراء بالدراسات الفلسفية استكمالًا للفهم وطمعًا فى اللحاق بذلك الشاعر الفيلسوف الذى شغلت به الألسن وسهرت فى شعره العيون، وكتب عن عالم البصريات والمفكر الحسن بن الهيثم الذى دعاه «بطليموس العرب» «ابن الهيثم كان لا يحب المناصب ويؤثر عليها التفرغ للعلم والبحث، ويروى عنه أنه عندما ولاه الحاكم الخليفة الفاطمى أحد الدواوين فضاق بهذا صدره، ولم يجد سبيلًا للخلاص من فتنة الحكم وفتنة الحاكم إلا بإظهار الجنون واحتمال الحبس فى داره والحجز على ماله عدة سنين، فلما مات الخليفة، عاد الفيلسوف إلى الاشتغال بعلمه فى عزلة وكفاف العيش».
نماذج تكاد تكون أسطورية ولكن مثل الشيخ مصطفى عبدالرازق تستوقفه هذه النماذج، وكما ذكرت د. نعمات أحمد فؤاد: شبيه الشىء منجذب إليه.