رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتنبى فى مصر



تقريبًا، يكاد يكون الواحد شايف المتنبى، وهو بـ يهرب من مصر، فـ عيد الضحية، ووقف شوية ياخد نَفَسه، ويفتكر، وترجع الأحداث فلاش باك: طفل فى الكوفة اسمه أحمد حسين حسن، مشهود له بالكفاءة والعبقرية والنبوغ كـ شاعر، والشعر يعنى وزارة الإعلام، أو وزارة الخارجية، لكنه «غير لائق اجتماعيًا»، وبالتالى غير مسموح له أن يلتحق بالبلاط عند أى حاكم أو أمير. حاجة كده عبدالحميد شتا، الله يرحمه.
بس الولد ما انتحرش، وفضل يحاول، رغم التريقة والسخرية والشنكلة، رغم تسميته «المتنبى» نتيجة إساءة فهم أشعاره، وكبر، وانضم لـ تنظيم سياسى معارض اسمه «القرامطة»، وتعرض للاعتقال سنتين، وخرج، وحاول تانى. فضل المتنبى سنين طويلة فمعارك على كل المستويات، لـ حد ما بقى عنده ٣٤ سنة، وأخيرًا حد اعترف بيه، الحد ده اسمه سيف الدولة الحمدانى، أمير حلب فى بلاط سيف الدولة، المتنبى مكنش بس شاعر البلاط، كان حرفيًا شريكًا فى الحكم، وعاش ٩ سنين هناك، خاضوا عشرات المعارك، ما خسروش ولا حرب. والعلاقة بينهم كانت مركبة لدرجة توحى بالكتير من الخيالات.
فى الفترة دى، المتنبى حس إنه وصل للقمة، إيه ممكن يعيشه أكتر من اللى عاشه، المعنى ده قاله بـ كذا طريقة، أوضحها فـ القصيدة اللى كتبها لما أم سيف الدولة ماتت، إنه خلاص شاف كل حاجة، واختبر كل حاجة، وما عادتش حاجة تهزنى. بس اللعنة كانت موجودة طول الوقت، ودوام الحال من المحال، والحاكم العربى عبر التاريخ «وِدَنى»، والمتنبى حس إنه ما بقاش ع الحجر زى زمان، لدرجة إن واحد اسمه ابن خالويه «مسئول النحو فى بلاط سيف الدولة» ضرب أبوالطيب على دماغه فتحهاله فـ حضور سيف الدولة، اللى ما فتحش بقه، ولا قال له حتى بـ تعمل إيه. خرج المتنبى من بلاط سيف الدولة، بعد ما قال له قصيدة نارية مركبة، بتاعة «الخيل والليل والبيداء تعرفنى» وسابه، بس المرة دى بقى مشهور، ومعاه فلوس كتير كتير. وبعد رحلة مش طويلة حط الرحال فـ مصر عند كافور الإخشيدى. المتنبى كان متصور إنه على ما اتعود، هـ يكون شريك فـ الحكم عند كافور، زى ما كان عند سيف الدولة، بس كافور كان باصص له كـ شاعر، أوك، شاعر سوبر، مشهور، ما حصلش، لكنه فـ النهاية شاعر، ييجى ينتع القصيدة، وياخد اللى فيه النصيب، وبالنسبة لحالة المتنبى وقتها، «اللى فيه النصيب» ده يعنى عزبة مثلا. المتنبى نفض لـ كافور، وعاش فـ شوارع المحروسة، وبدأ يتكون عنده إحساس إنه كان غلطان لما تصور إنه عاش كل حاجة وشاف كل حاجة، تجربة مصر خلته يراجع كتير من تصوراته، ومتهيألى قصيدة «الحمى» من أعظم قصائد الشعر العربى القديم، إن لم تكن الأعظم على الإطلاق. فى «الحمى» المتنبى بـ يحكى عن تجربته فـ مصر، وعن مصر نفسها، وعن الحياة كلها، وكانت نتيجة إصابته مرة بالحمى، وحالة من الضعف والوهن أصابته، فكان بيزاوج بين حالة الحمى، ومصر نفسها.
فـ الآخر، قرر المتنبى إنه يهرب من مصر، إنه يسيب كافور ورجالته، وفـ طريق الهرب، وقف ياخد نَفَسه، ويسترجع حياته، ويكتب عن البلد اللى الفساد فيها عمره ما بـ يخلص، الخير كتير والحرامية كتير، لا الخير بـ يخلص، ولا الحرامية بـ يشبعوا.
بس المتنبى قرر إنه مش هـ يرجع لـ سيف الدولة، رغم حبه للراجل، ومش هـ يعيش تانى فى بلاط أمير، أى أمير، ولما اكتشف إن اليوم اللى بـ يهرب فيه ده هو يوم عيد الضحية، راح بادئ قصيدته بالبيت ده:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى، أم، بأمر، فيك تجديد
ويادوب تلات سنين، وهـ يموت الموتة المشهورة، وهو يادوب حاجة وأربعين سنة، ربنا يرحمه ويرحم الجميع.