رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابنة مصطفى محمود: كان يرى الإخوان تجار دين (حوار)

جريدة الدستور

 
هذا الرجل دخل عالم الصحافة بحثًا عن مرفأ آمن، فإذ به يجد نفسه راسيًا على شفا محيط صاخب، فخرجت كلماته كوقود يشعل النقاش والتأمل فى مجموعة من «التابوهات المقدسة» التى ترفع رايات «ممنوع الاقتراب أو حتى التفكير»، وكذلك حلقاته التى أسهمت فى تحريض العقل على التأمل والتدبر.. إنه الدكتور مصطفى محمود، الكاتب الطبيب الذى عاش حياته مثيًرا للجدل، لكن بعد رحيله اكتشف الجميع أنه فكرة عابرة للزمن، صامدة بمرور السنوات وانقضاء الأيام. هكذا كان وسيظل دومًا الدكتور مصطفى محمود «٢٧ ديسمبر ١٩٢١ - ٣١ أكتوبر ٢٠٠٩»، الذى التقت «الدستور» ابنته «أمل» فى الذكرى العاشرة لوفاته، فى حوار، كشفت خلاله عن جوانب خفية من شخصيته وطريقة تفكيره.

القرآن أول عشق فى حياته.. وخوفه من الموت وراء قراره بخوض تجربة الزواج


بمجرد أن جلست إلى «أمل» قلت لها: «مستحيل أن ينحصر الحديث عن الدكتور مصطفى محمود فى زاوية واحدة أو اتجاه ما. فهذا الرجل تتجلى من كتاباته وحلقاته معالم المثقف الموسوعى، الذى نجح فى قطف زهور كثيرة من كل حدائق العلم والمعرفة».
وأضفت: «بالتالى ليس أمامنا من سبيل إلا أن نبدأ الكلام عنه بالانطلاق من مقولته الرائجة والشهيرة: (أريد لحظة انفعال.. لحظة حب.. لحظة دهشة.. لحظة اكتشاف.. لحظة معرفة.. أريد لحظة تجعل لحياتى معنى.. إن حياتى من أجل أكل العيش لا معنى لها لأنها مجرد استمرار)».
ما إن انتهيت بدأت «أمل» تسترجع ذكريات والدها الراحل، قائلة: «فى العبارة السابقة نجح والدى فى صياغة معالم وملامح علاقته بالحياة من جميع زواياها الإنسانية والعملية. فهى جملة عزف من خلالها على أوتار الشغف والعمل والعلم وأيضًا الإيمان».
وتضيف: «الحب فى حياة والدى أخذ أشكالًا كثيرة ومتنوعة من لحظة ميلاده حتى وقت رحيله، ودائمًا ما كان يقول: (العاطفة هى التى تشكل وجدانى)، وتلك حقيقة لمستها بنفسى. فهو بطبعه إنسان عاطفى جدًا وخيالى جدًا جدًا».
وتكشف عن أن أول علاقة حب فى حياته كان القرآن الكريم، ناقلة عنه: «عندما كان عمرى ٣ سنوات، أرسلنى أهلى إلى كُتّاب القرية لتعلم آيات الذكر الحكيم، كان وقعه وتأثيره على شخصى شديدًا وساحرًا. فمجرد أن أبدأ فى تلاوة الآيات أشعر بصدى موسيقى شديد الجمال يطرب أذنىّ، ثم تكتمل تلك النشوة بالوصول إلى سكرة خيال تجعلنى أرى الآيات وكأنها مجسدة أمامى، أستمتع بنعيمها وأخشى وعيدها، وهذه أولى حالات الشغف فى حياتى».
وعندما كان عمره ٩ سنوات وقع أسيرًا فى حب «بنت الجيران»، ولم يكن هو وحده الذى أصابه ذلك الهوى، فقد فتنت تلك الفتاة كل زملائه وأصدقائه وجيرانه الآخرين، لكنه وحده كان يملك ما لم يُوهب لأحد غيره، فقد أحبته لأنه كان قادرًا على إلقاء الشعر وتأليفه، بجانب مقدرته على الغناء والتلحين، وكثيرًا ما كانت تطلب منه أن يُسمعها بعضًا من أبياته، فكان يقوم بالارتجال فى لحظتها، فمنحته دون غيره قلبها ووهبته حبها، وفق «أمل».
فى تلك اللحظة اشتعلت نيران الغيرة فى نفوس كل من عرف، فمنعوه من الاقتراب منها نهائيًا مستخدمين كل وسائل الترهيب، فابتعد بالفعل عنها، لكنه دخل لاحقًا فى نوبة من الاكتئاب والحزن الشديد وصفها هو بقوله: «أُصبت بصدمة وخيبة كبيرة استمرت معى سنوات طوالًا، وفى كل مرة كنت أمر من أمام منزلها، أجد قلبى يخفق بشدة، لدرجة جعلتنى أعتقد أن البيوت من حولى تهتز هى الأخرى».
وفى مرحلة المراهقة، تحول هذا الشغف نحو الاهتمام بالعلم، حيث دخل فى نوع من الإضراب الضمنى تجاه فكرة الارتباط، وتكونت لديه مجموعة من المفاهيم الخاصة أهمها يتمثل فى أن الحب الحقيقى ليس دائمًا الحب الأول أو الثانى، إنما هو الذى يصمد أمام الزمن، معقبة: «هذا السبب يفسر سر زواجه المتأخر. فمثلًا تجده تزوج والدتى وهو فى الأربعين من عمره، بالرغم من أن عمرها حينها كان ١٧ عامًا».
وتضيف: «فى تلك المرحلة كان اسمه قد بدأ فى الانتشار والذيوع. فوقتها كان لديه باب فى الجريدة مسئول عنه يخصه للإجابة عن المشاكل العاطفية، التى ضمها لاحقًا فى كتابه (٥٥ مشكلة حب)، وقد أرسلت له والدتى خطابًا تخبره فيه بأزمتها المتجسدة فى رغبة أسرتها فى إخراجها من التعليم وتزويجها على غير رضا منها».
وتواصل: «وقتها لعب القدر دوره، فأمى حينها كانت تسكن بالقرب من منزله فى الجيزة، فطلب رؤيتها وبمجرد أن شاهدها حسم قراره بالزواج منها، فيما يعرف ويوصف بالحب من أول نظرة، ثم داعبها قائلًا: (خلاص إنتى هتتجوزى درش)، فى إشارة لنفسه، وهو ما حدث بالفعل».
وتحكى: «فى توقيت ما قبل الزواج، كان والدى قد أصيب بمرض شديد فى معدته، وقد ظل عامين لا يأكل إلا أصنافًا معينة من الطعام، وقرر الأطباء إجراء جراحة له للخلاص من هذا الألم، فاتخذ قراره بالزواج خشية أن يموت وهو لم يخض غمار تلك التجربة».
قاطعت ابنته متسائلًا: كل الذين عرفوا الدكتور مصطفى محمود أجمعوا على حقيقة تقول، إن هذا الرجل كان عبقريًا فى علمه وحكيمًا فى حياته، لكنه بالرغم من ذلك فشل فى إدارة أصغر مؤسسة فى الحياة، ألا وهى الأسرة، فى مفارقة عجيبة باعتبار أنه ذاع صيته من قدرته على إيجاد حلول للمشاكل العاطفية.. فما السبب؟
تجيب: «سبب انفصاله عن زوجاته كان سببه الأساسى شخصيته التى تميل إلى الاستقلال. فهو لم يكن يفعل إلا ما هو مقتنع به فى التوقيت الذى يريده، وهو ما يتنافى مع فكرة الزواج، القائمة على أنه مسئولية مشتركة، ويحتاج إلى تبادل وجهات النظر بين الطرفين».
وتضيف: «هو إنسان لا يرضخ بسهولة، وبالمناسبة تلك عادة مبكرة اكتسبها. ففى شبابه أعلن تمرده على توجيهات والده، فقد كان بينهما شبه خلاف دائم فى وجهات النظر خلال إحدى مراحل حياته، وهو ما دفعه للرحيل عن بيت العائلة والاستقرار فى منزل بمفرده».
وعن لحظات الانفعال فى حياته، تقول: «الكذب والظلم والخداع، تلك الثلاثية كانت كفيلة بأن تكشف عن وجه آخر مغاير له. فمثلًا عندما يجد أمامه مظلومًا كان ينفعل ولا يهدأ إلا عندما يعود الحق لصاحبه».


مقال عن هتلر كاد أن يتسبب فى سجنه لولا «العقلاء» من أصدقائه وزملائه


«إذا كان مصطفى محمود قد ألحد، فهو يلحد على سجادة الصلاة».. هكذا دافع الشاعر الكبير كامل الشناوى عن صديقه مصطفى محمود عندما ألف كتابه «الله والإنسان»، الذى قرأ فيه دواخل «محمود» على الرغم من أن الأخير لم يكن قد كشف وقتها عن تفاصيل رحلته من الشك إلى اليقين، أو بالأحرى من الإلحاد إلى الإيمان.
تصف «أمل» تلك المرحلة المشتعلة من حياة أبيها قائلة: «التفكير الفلسفى والعقل النقدى، إضافة إلى قراءته المتعمقة لعدد من الكتاب الغربيين، السبب وراء ميوله فى لحظة ما نحو الإلحاد، فهو لم يكن يقبل بالمسلمات، وكان محبًا للتجريب والتفكير». وتضيف: «لكنه مع ذلك لم يعتبر ما فعله إلحادًا بمعناه المعروف، فهو كان يعتبره لحظة بحث ومعرفة لا أكثر من ذلك، والدليل أنه لم يُبد ندمًا طيلة حياته على ذلك الموضوع».
وتواصل: «تلك الفترة كان تفكيره ميالًا أكثر صوب الأفكار العلمانية، وقد حكى أن سبب التحاقه بكلية الطب، رغبته فى اكتشاف ذلك العقل الذى يبكى ويشعر وينفعل ويضحك ويتألم، لذا احتفظ بجمجمة إنسان فى منزله، وكان مطلعًا وحافظًا تفاصيلها عن ظهر قلب، لدرجة أبهرت أساتذته الأجانب فى كلية الطب فيما بعد».
واستطاع الراحل العظيم أن يحقق نجاحًا ملحوظًا فى مهنة الطب، لكن فى لحظة ما قرر أن يقود انقلابًا كبيرًا فى حياته، عندما هجر الطب واتجه لممارسة الصحافة، فما دوافع تلك النقلة الكبرى فى مسيرته؟
تجيب ابنته: «هو فقط كان يبحث عن اللحظة التى تجعل لحياته معنى، والمؤكد أنه ليس هناك أفضل من الكتابة، فهو كان مؤمنًا بأن تأثيرها أقوى وأبقى على الناس، إضافة إلى أنه كان قادرًا على التعبير عن إحساسه من خلالها».
وتعتقد أيضًا أن هناك سببًا آخر، موضحة: «عندما اختار العمل بقسم الأمراض الصدرية وتخرج فيه، كان مرض الربو من الأمراض المنتشرة آنذاك، فاستطاع معالجة كثيرين منه، لكنهم بعد فترة تعرضوا لانتكاسة صحية وعاودهم الألم مرة أخرى، وكان لذلك أثر عليه، حيث أصيب بصدمة باعدت بينه وبين ممارسة الطب ودفعته تجاه العمل فى الصحافة».
وتستكمل: «العمل الصحفى مشهور عنه أنه مهنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، لكن من حسن حظه أنه فى الفترة التى بدأ العمل فيها، كانت المهنة تضم عددًا من القامات الكبرى، أمثال إحسان عبدالقدوس وكامل الشناوى وغيرهما، نجحوا جميعًا فى احتوائه وتسهيل خطواته الصحفية الأولى».
وعن علاقته بـ«عبدالقدوس» و«الشناوى»، تكشف: «كان الراحل محبًا ومولعًا بشخصية إحسان، وفى الوقت ذاته عاشقًا شخصية كامل الظريفة والمشهورة بالفكاهة. فدائمًا ما كان يداعبه هو ويوسف إدريس قائلًا: (أنتم خريجو كلية الطب الجميلة.. وعمرى ما هصدق علاجكم لو تعبت وكتبتم ليا روشتة علاج)».
وتلفت إلى أنه «بمجرد أن بدأ خطواته الأولى داخل عالم الصحافة اختار العمل فى قسم الفن، ربما لامتلاكه صوتًا جميلًا. فبدأ فى كتابة المقالات وقدم حينها نقدًا فنيًا لفيلم (القاهرة ٣٠)، فجذبت كلماته أنظار الفنان محمد عبدالوهاب، فطلب مقابلته وتوطدت العلاقة بينهما، وصارا صديقين حتى اللحظات الأخيرة من رحيل موسيقار الأجيال».
وتحكى أن «الأجواء الجيدة التى رافقت بدايات عمله الصحفى لم تدم طويلًا. فقد فوجئ لاحقًا بحذف فقرات من مقاله الدورى أحيانًا، وتأجيل نشره فى أحيان أخرى، وسبب ذلك كان الإعلانات التى تنشرها الجريدة، وعندما استفسر غاضبًا من ذلك أجابوه: لولا الإعلانات مش هنعرف نصرف على الجريدة.. ولا هتاخد حتى مرتبك».
وتكمل: «ثم حانت لحظة الصدام عندما كتب مقالًا عن أحد الأفلام التى تتناول شخصية الزعيم النازى هتلر، وقتها اعتبر الأستاذ محمد حسنين هيكل كلماته تحمل إسقاطًا على شخصية الرئيس جمال عبدالناصر، وكاد يتعرض للحبس وقتها لولا أصوات العقلاء من أصدقائه وزملائه فى الوسط، التى نجحت فى كبح جماح الانتقام والتشفى منه، لكنه بعد ذلك بدأ يميل نحو كتابة وتأليف الكتب أكثر من الاهتمام بالعمل الصحفى».
وتروى أنه «رغم ذلك تعرض للتضييق نوعًا ما، ففكر فى العودة لممارسة الطب، بعدما انتاب والدتى نوع من القلق خشية التعرض لضائقة مالية فطمأنها قائلًا: أنا كاتب مجموعة مسرحيات.. لما هنتزنق فى الفلوس هبيعها واحدة واحدة، وهذا ما كان».



الحريات وراء خلافه مع عبدالناصر.. ورفض عرض تولى وزارة الإعلام فى عهد السادات



فى كتاب «الإسلام السياسى والمعركة القادمة»، الصادر فى عام ١٩٩٢، أطلق الدكتور مصطفى محمود نبوءة مبكرة، عندما قال إن مصر مقبلة على أحداث جسام، متنبئًا بأزمات المياه، ومحذرًا من الزيادة السكانية، واللعب على وتر الطائفية وغيرها من المشاكل.
لكن اللافت أن فى جوهر هذا الكتاب يكمن فى ملمح مهم من شخصية هذا الرجل، فقد لعب بكلماته دور السياسى الذى يُعرف أنه ذلك الرجل الذى يجلس فوق السور وأذناه على الأرض ليفهم ويحلل فيما يفكر ويرغب الإنسان فى فعله.. لكن السؤال: كيف كانت علاقة صاحب «ألعاب السيرك السياسى» بعالم السياسة؟
تجيب «أمل»: «كانت لديه قناعة تامة بأن عالم السياسة ليس موطنًا للمثل والقيم، وأن السياسيين ليسوا ملائكة، لأنه بطبعه يكره ويبغض النفاق والمهادنة، وتلك متلازمتان لا تخلو منهما تلك البيئة، إضافة إلى أنه شخص عاشق الحرية، وتلك النقطة تحديدًا كانت أساسية فى خلافه مع نظام عبدالناصر، بالرغم من إيمانه بالفعل بكونه شخصًا يملك مواصفات وكاريزما الزعيم».
وتضرب المثل على ذلك بأنه «كان مستعدًا لأن يتقبل فكرة تقييد الحريات لفترة، لكن أن ينتهى الموضوع بهزيمة قاسية كتلك التى حدثت فى عام ١٩٦٧ فهذا هو ما يعرف بحد اللا معقول».
وتضيف: «على النقيض من ذلك، علاقته كانت حميمة بـالسادات، وهى علاقة صداقة قديمة نشأت بينهما بحكم عمل الرئيس الراحل فى الصحافة خلال البدايات الأولى من ثورة يوليو، وعندما تولى منصب رئاسة الجمهورية عرض على أبى منصب وزير الإعلام لكنه رفض، وكان منطقه عائدًا إلى أن المنصب يقيد حريته، وتلك نقطة».
وتتابع: «النقطة الأخرى هو إيمانه الشديد بأن مثل هذا المنصب يصبح من المحرمات عليه فعل النقد أو توجيه اللوم إلى رئيس الجمهورية أو أى من أركان نظامه، وهو ما يتنافى مع تكوينه الذى يرفض أن يهادن كائنًا من كان».
وفى عهد «مبارك» تم تحييده باعتباره من المحسوبين على نظام الرئيس السادات، ودفع ثمن ذلك غاليًا بعدما تم وقف برنامجه «العلم والإيمان»، وفق «أمل». فيما كانت وجهة نظره فى جماعات الإسلام السياسى، وعلى رأسها «الإخوان»، أنها كيانات تستغل الدين لتحقيق مكاسب سياسية، ومعظمها تحركها جهات أجنبية تقدم لها تمويلًا ماديًا لكنه يتم من وراء حجاب.
وتكشف عن أنه «فى سنواته الأخيرة لم يكن محبًا للظهور خاصة مع رحيل العديد من أصدقائه، لكن ظل هناك تواصل بينه وبين الفنانة شادية، إضافة إلى لويس جريس وجلال الشرقاوى، فقد كانا دائمى السؤال عنه». وتختتم حديثها قائلة: «هناك كتابات كثيرة وافتراءات أكثر كتبت بحق والدى، معظمها لا يمت للحقيقة بصلة، ولهذا فقد بدأت بالفعل فى كتابة مذكراته لكن توقفت عنها لأسباب معينة، لكننى قريبًا سأعاود استكمالها خاصة أن المعروف والمشهور ليس إلا نذرًا يسيرًا من مسيرته».