رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصطفى عبدالرازق.. المنادى بالحرية الفكرية «3»




فى سنة ١٩١٧ قام رجل سويدى يُدعى «بروزدر»- كان يعمل موظفًا فى صندوق الدَين فى مصر- بتأسيس جمعية صغيرة اختار لعضويتها صفوة شباب المصريين والأوروبيين لكى يديروا «جامعة الشعب». والهدف من تلك الجامعة هو إلقاء محاضرات لتثقيف الشعب وتنويرهم ورفع مستوى المصريين العلمى، وانضم لها عدد من العلماء والمثقفين كان أبرزهم مصطفى عبدالرازق الذى ألقى فيها محاضرات كثيرة.
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى فى أواخر ١٩١٨ وكان المنتصرون الإنجليز وحلفاؤهم، قد قاموا بالتفاوض مع المنهزمين وهم الألمان وحلفاؤهم الأتراك وغيرهم، فانعقد مؤتمر الصلح فى باريس. حزن المصريون بسبب انتصار الإنجليز ليس حُبًا فى الألمان لكن لأنهم كانوا يريدون طرد المستعمرين الإنجليز من مصر. مع انهيار آخر حصون الألمان انهارت الآمال التى كان يترقبها المصريون فى تحقيق الاستقلال التام، لكن خرج شعاع أمل من أمريكا عندما أعلن الرئيس الأمريكى «ويلسون» Wilson النقاط أو المبادئ التى تُعرف باسم «مبادئ ويلسون الـ١٤» والتى كان من ضمنها مبدأ حق الشعوب فى تقرير مصيرها. ويلسون توجه إلى باريس لكى يضع قواعد المصالحة، وبدأت مشاعر المصريين السياسية تستيقظ من نومها، وتعبر عن غضب شديد نحو الإنجليز المحتلين مصر، فنشطت العقول وظهرت أحزاب سياسية قديمة وجديدة وتشكلت جماعة سعد زغلول وجماعة الأمير طوسون وغيرهما، وتأسس الحزب الديمقراطى الذى كان معظم أعضائه من جماعة «السفور»، وانضم مصطفى عبدالرازق للحزب وكان من أبرز الأعضاء، لكن حزب سعد زغلول صارت له الهيمنة على كل الجماعات والأحزاب الأخرى، ورفض الحزب الديمقراطى أن يندمج فى حزب سعد زغلول. وعندما شكل سعد زغلول الوفد المسافر لأوروبا لحضور مؤتمر الصلح لعرض قضية مصر والمطالبة باستقلالها، أرسل الحزب الديمقراطى جماعة من أعضائه كان من ضمنهم مصطفى عبدالرازق لكى يطلبوا من سعد زغلول ضم وفد ممثل للحزب الديمقراطى للوفد المسافر، وبعد مناقشات وافق سعد زغلول على الاعتراف بالحزب الديمقراطى، وعرض انضمام مصطفى عبدالرازق للوفد المتجه إلى باريس لكن بعد مشاورات عائلية، وربما بسبب عدم الثقة فى حركة سعد زغلول وقتها، تقرر إلغاء فكرة سفر مصطفى عبدالرازق مع الوفد المتجه إلى باريس.
فى تلك الأثناء توفى السلطان حسين كامل وجلس على عرش مصر الملك فؤاد الأول الذى فى عهده قامت ثورة ١٩١٩. الملك فؤاد لم يكن راضيًا على توجهات مصطفى عبدالرازق السياسية والاجتماعية، فصدر قرار من مجلس الوزراء فى ٤ سبتمبر ١٩٢٠ بتعيين مصطفى عبدالرازق مفتشًا فى المحاكم الشرعية، وذلك بغرض إبعاده عن الأزهر وحرمانه من الاتصال برجال الأزهر الذين أيدوا ثورة ١٩١٩.
عمل مصطفى عبدالرازق فى إدارة المحاكم الشرعية، وكان عملًا بسيطًا غير محتاج لجهد كبير، وهذا أعطى له فرصة أن يوسع نشاطه العلمى والأدبى بالقراءة والكتابة والدراسة وزيادة اتصاله مع الأزهريين والأوروبيين والمتدينين وغير المتدينين والسياسيين وغيرهم.
فى صيف ١٩٢٢ تزوج مصطفى عبدالرازق ابنة عمه المرحوم أمين عبدالرازق، وتمت مراسم الزواج وهى فى قرية «أبوجرج» بينما هو فى القاهرة! وأرسل توكيلًا رسميًا وهو غائب عن عقد القران، وهذه كانت من الأمور العادية فى ذلك الوقت. وفى هذه الفترة تعاون مع «ميشيل برنار» لترجمة كتاب «رسالة التوحيد» لـ«محمد عبده» وتم نشر الكتاب فى باريس بالفرنسية سنة ١٩٢٥.
فى صيف ١٩٢٤ سافر إلى أوروبا وعندما عاد لاحظت وزارة الحقانية أنه تخلف سبعة أيام عن العمل وقال لهم إن السبب فى ذلك أنه لم يستطع العودة مبكرًا، إذ لم يجد مكانًا فى الباخرة، لكن الوزير صمم أن يأخذ إجراء رسميًا ضده ويخصم من مرتبه المدة التى تخلف فيها عن العمل، لكن مصطفى رفض وغضب وهدد بالاستقالة وانتهى الموضوع بذلك دون توقيع أى جزاء. استمر فى إدارة المحاكم الشرعية حتى عُرضت عليه وظيفة أستاذ مساعد للفلسفة فى كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول «القاهرة حاليًا»، فوافق وتقرر تعيينه فى الجامعة من أول نوفمبر ١٩٢٧، لكن حدثت مداولات طويلة بخصوص مسألة تحديد درجته الوظيفية ومرتبه وانتهى الموضوع بأن يتم تعيينه على الدرجة الثالثة بمرتب ٧٢٠ جنيهًا فى السنة.
نجح مصطفى عبدالرازق فى التدريس الجامعى وظهرت مواهبه بفضل ثقافته الواسعة وتعليمه فى أوروبا، وأظهرت المراجع والمصادر الكثيرة التى استخدمها فى مؤلفاته مدى ثقافته وسعة اطلاعه. منهجه التدريسى كان قائمًا على خلق صلة عقلية بينه وبين طلابه وهذه كانت من الأمور النادرة فى مصر وقتها، فكان يحفز طلبته على المشاركة فى بحث المواضيع واستخراجها من المراجع، وكان يشجعهم على مناقشة المسائل وفهم النصوص وكتابة الآراء، فكان منهجه يقوم على تنشيط عقول الطلبة ويحفزهم على أن يكونوا جادين فى الدراسة وتلقى العلم، وكثير من طلابه تفوقوا بعد ذلك، وأصبحوا من مثقفى مصر الكبار. نجاحه فى التدريس رشحه لأن يظل أستاذًا للفلسفة، فتم تعيينه فى هذا المركز فى أول أكتوبر ١٩٣٥ وحصل على درجة البكوية من الدرجة الثانية فى ٢ فبراير ١٩٣٧، واختير عضوًا فى مجلس إدارة دار الكتب المصرية بسبب اهتمامه بالكتب والمخطوطات النادرة. فى فترة تدريسه فى جامعة القاهرة، كان أحمد لطفى السيد رئيس الجامعة والدكتور طه حسين عميد كلية الآداب، وحصلت ضجة حول كتاب د. طه حسين «فى الشعر الجاهلى» الذى استعدى به قوى الاستبداد والتزمت والتحجر الفكرى. مصطفى عبدالرازق كان يعرف طه حسين من أيام دراستهم فى الأزهر، ووقف فى صفه ضد المتزمتين والرجعيين الذين هاجموه. فى ٧ أبريل ١٩٣٢ أقيمت حفلة شاى فى فندق «مينا هاوس» لتكريم د. طه حسين والتضامن معه، حضرها مصطفى عبدالرازق مع حافظ إبراهيم ومحمد حسين هيكل والآنسة مَلك. تم فصل د. طه حسين من الجامعة فى ٢٠ مارس ١٩٣٣ وكاحتجاج على فصله قدم أحمد لطفى السيد استقالته.