رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جولة بوتين الخليجية تعمق تغيرات الإقليم


بوتين كان يدق أبواب السعودية، الحليف الرئيسى لواشنطن بالمنطقة ١٤ أكتوبر، فى الوقت الذى كانت فيه القوات الأمريكية تغادر سوريا نهائيًا، والوساطة الروسية تتمكن من التوصل لاتفاق مصالحة بين الأكراد- حلفاء واشنطن- وممثلى الحكومة السورية، بقاعدة «حميميم»، دخلت بمقتضاه القوات السورية والشرطة العسكرية الروسية المدن الكردية شرق الفرات.
روسيا تستهدف إزاحة أمريكا عن مناطق نفوذها التقليدى بالمنطقة؛ وقعت مع السعودية أكتوبر ٢٠١٧ بروتوكول اتفاق يمهد لشراء نظام الدفاع الجوى الصاروخى «إس-٤٠٠»، غير أنه لم ينفذ، بسبب شراء المملكة نظام الدفاع الصاروخى الأمريكى «باتريوت»، تقديرًا للدور الذى قام به ترامب، لمواجهة محاولات فرض عقوبات على الرياض، بادعاءات تتعلق بانتهاك حقوق الإنسان، ومقتل الصحفى جمال خاشقجى، مستندًا إلى أنها خطوة خرقاء لا تفيد سوى روسيا والصين. إيران حليفة روسيا وجهت ضربة قاصمة لمنشآت «أرامكو».. بوتين نفى علمه بمصدر القصف رغم أقماره الصناعية التى ترصد كل شبر بالمنطقة على مدار الساعة، وأعاد عرض بيع «إس- ٤٠٠» للرياض لتأمينها، بعد عجز نظام «باتريوت» الأمريكى.. التنافس الروسى الأمريكى على مناطق النفوذ وتجارة السلاح بالغ الضراوة.. إيران «مخلب القط» وجهت الضربة للمنظومة الأمريكية، ليغتنم الدب الروسى الفرصة لتسويق منظوماته الأكثر تطورًا، ما يهدد بتدمير علاقات الرياض الاستراتيجية بواشنطن، على نحو ما حدث لتركيا، بعد صفقتها المماثلة مع موسكو.. جريمة إيرانية، واصطياد روسى فى الماء العكر.. تلك مقدمة لازمة قبل تناول زيارة بوتين للسعودية والإمارات.
النفط يتصدر موضوعات الاهتمام بين روسيا والسعودية، التعاون بدأ ٢٠١٥، لمواجهة التراجع الكبير فى الأسعار، البلدان يضخان معًا أكثر من رُبع إنتاج العالم، قادا مفاوضات طويلة بين أعضاء «أوبك»، التى تقودها المملكة «١٤ دولة»، والدول المنتجة المستقلة خارجها بقيادة روسيا «١٠ دول»، وتوصلا لاتفاق تاريخى ٢٠١٦ بخفض الإنتاج، ما أدى لرفع الأسعار.. الاتفاق الذى استحدث تكتل «أوبك+»، الذى ينتج نصف النفط الخام فى العالم، تم تمديده عدة مرات، آخرها ديسمبر الماضى لتخفيض الإمدادات بـ١٫٢ مليون برميليوم، مقارنة بإنتاج أكتوبر ٢٠١٨، ثم فى يوليو ٢٠١٩ حتى مارس ٢٠٢٠.. بوتين وقع فى السعودية ميثاق التعاون بين دول «أوبك» والدول المنتجة للنفط خارجها، ليحول اتفاق ٢٠١٦ إلى كيان سياسى قادر على التحكم فى أسعار النفط العالمية، مما يحد من تأثير العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا، نظرًا لأهمية عائدات النفط فى اقتصاد الدولة.
روسيا نظمت «منتدى الطاقة» فى «فالداى» قبل زيارة بوتين بأسبوع، شارك فيه ٣٠٠ من الرؤساء التنفيذيين لشركات من الدولتين، وتوصل لمشروعات عديدة للتعاون. المستثمرون الروس أبدوا اهتمامًا بالطرح العام الأولى المزمع لأسهم «أرامكو» بالسوق السعودية نوفمبر المقبل، قبل الطرح الدولى المحتمل. «جاز بروم» الروسية مهتمة بالتعاون مع شركات سعودية فى مجال الغاز الطبيعى. «سيبور - هولدنج» الروسية، تدرس إمكانية بناء مجمع بتروكيماويات سعودى باستثمارات تتجاوز مليار دولار.. الصندوق الروسى للاستثمار و«أرامكو» يدرسان القيام بمشاريع فى قطاع خدمات النفط بقيمة تزيد على مليار دولار، من بينها شراء حصة ٣٠٪ من شركة «نوفوميت» الروسية المتخصصة فى صناعة المضخات عالية التقنية. المملكة نجحت فى تحقيق التوازن بين التعاون مع روسيا لتنمية القطاع النفطى، وخفض العرض العالمى للنفط، سعيًا لرفع الأسعار من ناحية، ومراعاة رغبة واشنطن فى عدم تجاوز هذه الأسعار حدًا يضعف من تأثير عقوباتها على روسيا، ويضر باقتصاديات الدول المستهلكة من ناحية أخرى.
إشكاليات العلاقة السياسية بين الدولتين بالغة التعقيد، أهمها تعارض المواقف فى الملف السورى، روسيا تدخلت عسكريًا ٢٠١٥، تعزيزًا لنفوذها بالشرق الأوسط، وطورت علاقات التحالف الاستراتيجى مع إيران، العدو الأول للمملكة، بينما وقفت السعودية والإمارات مع المعارضة.. خروجهما كطرفين فاعلين فى الأزمة السورية، أدى لإنهاء هذا التعارض، وسمح بانفتاح روسيا عليهما لاستثمار مواقفها فى دعم عملية التسوية والمشاركة فى إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.. التحالف الإيرانى الروسى، خففت موسكو من وقعه، بتقديم نفسها كوسيط محتمل لتخفيف حدة التوتر بين الرياض وطهران بفضل علاقاتها الطيبة مع الجانبين.
روسيا وهى تسعى لفرض هيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، تدخل منطقة الخليج، بؤرة المصالح الاقتصادية والوجود العسكرى الأمريكى والغربى، بزيارة السعودية والإمارات، بحكم دورهما بالمنطقة، وذلك استكمالًا للجهد الاستراتيجى المبذول منذ ٢٠١٥، والذى سمح بطرد الوجود الأمريكى من سوريا، والتنسيق مع إسرائيل والأردن، ودعم التحالف وتعميق المصالح مع إيران وتركيا.. روسيا أعادت عرض مشروع الأمن الجماعى بمنطقة الخليج الذى طرحته فى يوليو ٢٠١٩، الذى يقوم على تفكيك القواعد العسكرية الأجنبية، ووضع آلية للأمن الجماعى والتعاون بين دول المنطقة.. بوتين أثناء مشاركته فى منتدى «فالداى» طور الاقتراح لإقامة منظمة للأمن والتعاون بالخليج، تضم الدول الإقليمية، وكلًا من روسيا والصين والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والهند والدول المعنية الأخرى بصفة «مراقبين»، مشروع يظل قيد البحث السياسى، دون أى ظل له على أرض الواقع. الملف اليمنى إحدى إشكاليات العلاقة.. المملكة تتزعم التحالف العربى المؤيد للحكومة الشرعية، المعادى لنظام الحوثيين فى صنعاء، روسيا أميل إليه، بحكم علاقة التبعية التى تربطها بحليفتها إيران، لكنها حرصت على تجنب اتخاذ مواقف متعارضة مع المملكة، حرصًا على مصالحهما المشتركة.. أغلقت بعثتها الدبلوماسية فى صنعاء، وتباعدت عن الحوثيين، وبدأت تتعاون عن كثب مع حكومة هادى، دون تجاهل باقى أطراف الأزمة، حيث استقبلت عيدروس الزبيدى، رئيس المجلس الانتقالى الجنوبى «STC»، الذى أنشئ مايو ٢٠١٧، بهدف تأسيس دولة جنوب اليمن المستقلة داخل حدود عام ١٩٩٠، كما استقبلت أحمد سعيد بن بريك، رئيس جمعيتها الوطنية، ودفعت شركات الأمن العسكرية الروسية الخاصة للعمل فى الجنوب.. موسكو ضمن سعيها لمد نفوذها فى الشرق الأوسط لا تستطيع تجاهل اليمن، بموقعه الاستراتيجى المطل على باب المندب وخليج عدن والبحر الأحمر، لذلك تحاول أن تحتفظ بقنوات تواصل مع كل الأطراف.

روسيا استثمرت أخطاء أمريكا لتعزيز نفوذها فى الشرق الأوسط، حتى أصبحت تمتلك اليد العليا بالمنطقة، وما زالت تتمدد. ترامب بالغ فى استخدام سلاح العقوبات الاقتصادية، وأطاح بالحد الأدنى للأمان النووى من جانب إيران، الذى كان يكفله اتفاق «٥+١»، رغم أنه كان أساسًا صالحًا للبناء عليه، ناهيك عن التردد فى القرارات، كل ذلك حقق نتائج عكسية، وأضر بالمصالح الأمريكية فى المنطقة، وهز الثقة فى الصورة الأمريكية ومصداقيتها، كما أنهك حلفاءها.. المنطقة تتسرب من قبضة ترامب، وتؤول للقيصر الروسى، لأن الأول لم يعد يرى دورًا للجيش الأمريكى إلا فى مهام تتعلق بمن يدفع، وغابت عن رؤيته مصالح الأمن القومى الأمريكى، واعتبارات التنافس على زعامة العالم، وما تفرضه الالتزامات الأخلاقية على القوى العظمى.. خسر وسيخسر المزيد.