رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ابنى قال لى: «أنا نجحت فى الثانوية لأن ربنا بيحبك»


عندما أنهى ولدى الثانى دراسته الثانوية والتحق بكلية الشرطة والتى أصبح الآن، بموجبها، على رتبة رائد فى مباحث وزارة الداخلية، كانت المسافة من بيتنا فى المهندسين، ذهابًا إلى مقر أكاديمية الشرطة بالتجمع، كل أسبوع، فرصة لتبادل الأحاديث بيننا داخل السيارة، ومدعاة لإذابة ما بين الأب وابنه من قواعد تحتم أن يكون الكلام بحساب، والتصرف بمسطرة.
فى إحدى المرات، فوجئت بولدى يقول لى بالحرف «تعرف إن ربنا بيحبك، وفلوسك حلال»، قلت: أكيد، أنا عارف ده كويس، بس إيه مناسبة الكلام ده؟.. قال لى «لأنى لم أذهب إلى أى درس خصوصى، ونجاحى فى الثانوية جاء لأنك رجل طيب».. استطردت قائلًا: وأين ذهبت فلوس الدروس التى دفعتها لك على مدى عامين كاملين؟.. رد ببساطة: «كنت أنفقها على الكافيهات أنا وزملائى».. نوبة مصارحة أدخلتنا فى نوبة ضحك عالية، لأن الأمر كان مفاجأة بالنسبة لى، وأصبح ولدى طالبًا فى إحدى الكليات الرفيعة.
وفى رحلة عودتى من الأكاديمية وحيدًا، تساءلت وقتها عن ذلك التيه الذى يعيشه بعض أبنائنا، ونحن عنهم لاهون.. بل، أكثر من ذلك، ما أدوات الرقابة المطلوبة، والتى لم يمارسها رجل مثلى، حتى نضمن لأولادنا سلوكًا قويمًا؟.. وهل لا تكفى الثقة فيهم، والرغبة فى منحهم مساحة من الحرية، تجعل منهم رجالًا أصحاء حينما يكبرون، لكى تكون معادلًا موضوعيًا لمقدار ما يُبذل من أجلهم، طعامًا وشرابًا وكساءً وتعليمًا، وحتى يكون رد الجميل، هو الاستقامة فى الدراسة وأداء ما عليهم من دور، حتى يكونوا رجالًا صالحين؟.. هناك خلل ما لا بد من البحث عنه، لمعرفته ومحاولة إصلاحه.
صحبة الدراسة وسن المراهقة.. ما يراه هؤلاء الصبية فى الأفلام والمسلسلات، منذ أيام مسرحية «مدرسة المشاغبين»، وما تلاها من أعمال، هدمت ما قد تلقاه الابن فى بيته، وأصبح لديهم، أن استغفال الأهل والضحك على ذقونهم، براعة سلوك وفهلوة، تكتسب قوة دفع للمزيد، كلما نفعت الحيلة، مرة بعد أخرى، دون أن يكتشفها أحد من الأهل.. ولكنى أعود إلى قول «الحمد لله» أن ولدى لم يكن مطية لانحراف يؤدى به إلى أن يكون قاتلًا أو لصًا، أو ما شابه تلك الأشياء التى نقرأ عنها فى الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى، أو ما نراه فى الشارع من ضعف فى التربية أدى إلى بلطجة، أوقعت «شهيد الشهامة».. وأدركت أن كل سلوك غير قويم، يجنح له خيال الابن، لا بد له من حاضنة، تعمل على إبرازه وتفاقمه، وترسخه فى ذاته، على أنه سلوك أولى بالاتباع، ما دام الظرف جاء مواتيًا له.. ولم ألتفت، بعد حديث ولدى لى، ولوقت طويل، إلى ظاهرة هروب التلاميذ من المدارس، وذهابهم إلى المقاهى والكافيهات، لقضاء الوقت، منذ خروج التلميذ من بيته للمدرسة، وحتى موعد الخروج منها، إلا منذ أن رأيت أحد رؤساء الأحياء، يقتحم مقهى، ويطرد منه التلاميذ الجالسين فيه، ويأمر بإغلاقه.
ساعتها أدركت أن هناك فرضًا غائبًا فى المعادلة التربوية لأبنائنا، وهو السؤال الجاد: أين كنت؟، وماذا فعلت؟، ومن الضرورى الاطلاع على ما بين يديه من أوراق للتأكد من صدق ما يقوله الابن، بل من الضرورى المتابعة الدائمة له مع مسئولى المدرسة، للاطمئنان على انتظامه بها، إذا كانت المدرسة منتظمة أصلًا فى استقبال طلابها والتدريس لهم، فى حصص على جدول مضبوط، لا يكون المعلمون هم أول من «يزوغ» منه، ثم تلى ذلك متابعة المدرس الخصوصى، حتى ولو من باب الاطمئنان على أن فلوس حصصه قد وصلت إليه من عدمها.
ولذا، وبالرغم من إدراكى الهدف الحقيقى من وراء صدور القانون ١٥٤ لسنة ٢٠١٩، الخاص بتنظيم عمل المحلات التجارية والمقاهى، فإننى أعتبره حجرًا فى البحيرة الراكدة، لعلها تعمل على إصلاح الترهل الذى أصاب الشارع المصرى، من تغول المحلات والأكشاك والمقاهى على أرصفة الشوارع وحرم الطريق، بل وأجزاء من مداخل العمارات، وكلها تقف وراء الإزعاجين السمعى والبصرى، وإعاقة المرور وسير المشاة، وحرج السيدات عند الدخول أو الخروج من منازلهن، خاصة أن المقاهى تعمل حتى الساعات الأولى من ظهور نور الصباح، ويتخذها العاطلون والبلطجية مأوى لهم. وأرجو أن يكون ما بين صدور القانون، وإصدار اللائحة التنفيذية له، فرصة لتوفيق الأوضاع، ليس فقط بالحصول على ترخيص ممارسة المهنة وقانونية المنشأة، بل الأهم هو الضوابط التى تعمل بمقتضاها هذه المنشأة، التى يمكن أن تعيد الانضباط المفقود إلى الشارع، دون أن يتحذلق متحذلق بالقول «إن هذا باب رزق وأكل عيش ناس كتيرة، وفيه بيوت مفتوحة من وراه»، لأن مثل هذا الكلام أعاد مصر إلى الوراء أجيالًا، وليست سنوات.
وبصراحة أنا أخشى تساهل العاملين فى المحليات، وبدون زعل، أرى أنهم وراء كثير من المفاسد التى تقع فى مجتمعنا، ولا بد من شرطة قوية تضرب بيد من حديد كل مخالف مُتجاسر على كرامة الشارع المصرى وقاطنيه، من هؤلاء الذين صنعوا اقتصادًا موازيًا، لا تعود على البلد من ورائه فائدة، مع أن أصحابه أكثر ما يكلفون الدولة عناءً، أوله النظافة، وآخره محاولة الانضباط، الذى يقف له أصحاب هذا الاقتصاد بالمرصاد، ويعرقلون تحقيقه.
ولو كانت لى أمنية أود تحقيقها فى هذا القانون، فهى تجريم استمرار أى مقهى فى العمل، ما دام يجعل من هم دون الثامنة عشرة بين رواده، لأن مثل هذه الفئة من الرواد فى حكم القُصّر، غير المسئولين عن تصرفاتهم، فليس أقل من أن يكون أصحاب هؤلاء المقاهى رقيبين على تصرفات هذه الفئة، للمساعدة على ألا يكون لهم بديل عن الذهاب إلى مدارسهم والانتظام فيها، على الأقل من قبيل المسئولية المجتمعية على سلوك هؤلاء الصغار، وأن يتناسب العقاب، طبقًا للقانون، مع حجم الجُرم الذى يرتكبه أصحاب هذه المقاهى، الذين تجرأوا على مخالفة بنوده، ولم يعبأوا أنهم بتصرفاتهم تلك، إنما يضربون المجتمع فى مستقبل ثروته البشرية.
فالدنيا لا تُؤخذ إلا غِلابًا، و«من لم يرض بالخوخ، عليه أن يقبل بشرابه»، فما عادت المجتمعات تتقدم إلا بسيادة القانون وسطوته على رقاب الكل، صغيرًا كان أم كبيرًا.. ومشكلتنا أن لدينا ترسانة من القوانين، لكن مصيبتنا فى عدم تفعيلها، وجعلها الناموس الذى يحكم حركة المجتمع وأفراده.. وكما يقود الرئيس عبدالفتاح السيسى البلاد إلى صناعة ما كان مستحيلًا، وجعله واقعًا يراه القاصى والدانى، علينا أن نأخذ على كل من يجر هذه المسيرة إلى الوراء.. وأول خطوة فيها الانتصار لحماية ثروات الوطن من النهب والتضليل والنهب يخص المال، بينما يخص التضليل الشباب التى تتكالب عليه جماعات الجهالة لجره إلى التطرف من ناحية، وجماعات الطمع فى المال، من خلال المقاهى وغيرها من أماكن اللهو.. فهل نفعل؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.