رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المصريون فى رسائل إنجليزية


أقامت الإنجليزية لوسى دوف جوردون فى مصر حوالى سبع سنوات «١٨٦٢- ١٨٦٩». كانت إقامتها بقصد الاستشفاء من داء السل، الذى أصابها. فى ذلك الوقت لم يكن قد اكتشف علاج لهذا المرض الخطير. ونصحها الأطباء بأن تذهب إلى أحد البلاد التى تتمتع بجو معتدل وجاف مثل جنوب إفريقيا. وبالفعل سافرت إلى جنوب إفريقيا، ولم تجد بغيتها هناك وعادت مرة أخرى إلى إنجلترا ونصحها الأطباء بأن تذهب إلى مصر.
كتابها «رسائل من مصر»، نشره فى عام ١٩٦٢ حفيدها جوردون ووتر فيلد، الذى كان يعمل صحفيًا فى القاهرة، رئيسًا لتحرير جريدة الإيجبشيان جازيت. وترجمه الكاتب الروائى إبراهيم عبدالمجيد، ونشره مؤخرًا.
وصلت لوسى دوف جوردون إلى الإسكندرية فى أكتوبر ١٨٦٢، فى أواخر عهد الخديو سعيد باشا، حاكم مصر وقتها، ووصلت إلى الأقصر شتاء نفس العام، واستقرت فى بيت اسمه بيت فرنسا بناه هنرى سولت للقنصل الإنجليزى، وكان يطل المنزل على نهر النيل من الناحية الأخرى. وبعد أن استقرت فى المنزل، بدأت لوسى فى الاختلاط بأهالى الأقصر.
فى ذلك الوقت لم تكن الأقصر قد تحولت إلى مدينة مزدحمة كما هى عليه الآن، فقد كانت عبارة عن قرية تعدادها لا يتعدى الألفين.
كان منزل لوسى ملتقى كثير من العلماء الأجانب الذين يزورون الأقصر، ومنهم شامبليون الذى فك طلاسم اللغة الهيروغليفية، ومارييت عالم الآثار، الذى أسس متحف الآثار. كما كان يزورها مهربو الآثار ومبشرون لتحويل المسلمين عن ديانتهم الإسلامية، وأيضًا تحويل الأقباط عن عقيدتهم الأرثوذكسية.
عندما استقرت لوسى فى بيت فرنسا فى الأقصر أحبت الأهالى وتعاطفت معهم، وكتبت إلى زوجها تصف البيت بأنه متسع جدًا، وجدرانه سميكة- طبيعة المعمار المصرى الذى لا يستند إلى دعامات أسمنتية- وأنها تعتصم فى بيتها من الرياح العاتية، وأنها تجد الدفء فى داخله، وبه نوافذ يغطيها الزجاج، وتقول إنه مسكن جميل تهفو إليه النفس، وفيه بومتان كل واحدة فى حجم قبضة اليد وتعيشان تحت النافذة. وعندما ساءت حالة البيت فى أواخر أيامها كتبت لوسى إلى ابنتها أن البيت بلا أبواب وبلا أثاث، وقد بدأت العصافير تبنى فيه أعشاشها، وفى بعض الأحيان تطير فيه الخفافيش. وكانت تعالج البسطاء بأدوية بسيطة من الأعشاب، كانت تتحدث مع كل الأهالى على اختلاف طبقاتهم، وكانت تلتقى العامة ومتواضعى الحال والمتشردين فى الطرقات، وكانوا يبتهجون فى لقاءاتها معهم، وكانت تعرف كيف تحمى الصامتين منهم والذين يشعرون بحساسية، وغير القادرين على الانضمام لمناقشاتها، وكانت تلقى عليهم التحية باحترام وبأسلوب محبب إليهم، وكان بابها مفتوحًا حتى للكلاب الضالة. وكتبت عن مشاعر المصريين نحوها حيث قالت فى رسالة لها فى ٢٥ يناير ١٨٦٩: «فى مسجد إسنا ابتهلت جموع المصلين من أجلى، لعل الله يكافئنى، وإذا كانت الدعوات ستشفينى فسأكون أفضل بسرعة، فى الأقصر ذبح عمر الشاة التى نذرها، ومصطفى ومحمد ذبح كل منهما اثنتين كفدية شكر على حياتى، وكل الدراويش تجمعوا فى ذكر كبير فى خيمة، وغنوا وابتهلوا إلى الله ليلتين كاملتين أن يشفينى».
كان الناس يرسلون لها الخبز الطازج اللذيذ والخضروات الطازجة واللحم وتقول إنهم أرق مما كنت أتصور، مع أننى لست ذات فائدة لهم.
إنها تتحدث عن الشعب المصرى الأصيل، الشعب الذى ذاق المر والويل من كل حكامه، ومع ذلك لم يشارك يومًا فى تقرير مصيره أو حتى حكم بلاده، كان الحكام وأصحاب القرارات من مصريين ينتمون لطبقات أخرى.