رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

طلعت ريحتكم




هكذا تحدث «الجوكر»- خواكين فينيكس- فى فيلمه الحائز على أسد فينيسيا الذهبى والمرشح بقوة لجائزة الأوسكار. فالجوكر فى فيلم المخرج «تود فيليبس» الجديد لم يعد عدوًا لباتمان كما كان فى سينما الخيال والكوميكس. الجوكر فى هذا العمل صار عدوًا للرأسمالية وللغلظة فى آن واحد.
فللرأسمالية غلظتها وروائحها النفاذة العطنة، وإن بدا من مظهر ووجاهة الرأسمالى الخارجية ما هو عكس ذلك.
فالرأسمالى يتزين ويتعطر لنفسه فقط، تاركًا كل ما حوله يموت ويتعفن، فيغرق الجميع فى مستنقع الرأسمالية الذى يبرق فى ظاهره ويتوحش دومًا من الداخل.
لقد صرخ الجوكر فى وجه الرأسمالية والرأسماليين النيوليبرال ضاحكًا.. وضحكه كان لا إراديًا، وكأنه يقول لهم: فحشكم يوترنى ويصيبنى بالهيستيريا الضاحكة.. هكذا هو الحال فى مدينتكم، والتى يمكن وبمنتهى الأريحية إسقاطها ليس فقط على مدينة نيويورك التى ترزح مع بقية الولايات تحت مغبة حكم ترامب الرأسمالى النيوليبرالى الأكبر، بل يمكن إسقاطها على أغلب مدننا فى الشرق وفى الغرب.
فقد عانت بيروت الجميلة مما عانت منه مدينة «جوثام».. وصرخ أهلها منذ سنوات فى وجه أشقاء الرأسمالية، فى الفيلم «توماس وين»، وعايروا كل مسئول متقاعس فى مدينتهم بعبارتهم الشهيرة وثورتهم النظيفة التى كان شعارها «طلعت ريحتكم»، وكما عانى أهل بيروت، وعانى أهل جوثام ونيويورك فى مطلع الثمانينيات، تعانى القاهرة الآن، بل وتعانى غالبية عواصمنا الكبرى من شيوع فحش الرأسمالية وانسحاق الجميع تحت عجلاتها.. فيظهر دومًا جوكر هنا وهناك بقناع «الفانديتا» الغاضب، أو بالقناع الضاحك كحال بطل الفيلم.
فالكريهون والغلاظ يحيطون بنا وبالجوكر «المهمش» فى كل مكان، ولا سبيل للفكاك منهم. يحاصرون الجوكر دومًا ويضغطون على أنفاسه فتلهث، ولا يسعه التنفس إلا من خلال الضحك الهيستيرى الذى عانى منه الجوكر لسنين طويلة كآلية تنفيس نفسية حرّمها الغلاظ عليه وحرموه منها فتحول لقاتل. السيدة التى زجرته فى الحافلة مستغلةً سلطتها كأم لطفل كان سعيدًا بلهو المهرج.. واعتبارها اللهو تعديًا ومضايقة، فى حين أن غلظتها هى مصدر الضيق.
فالمهمشون فى المدن الفاحشة يتعالون ويتعاملون مع غيرهم من المهمشين بغلظة غير مبررة، تمامًا كما فعل زميل الجوكر فى العمل، ذلك الضخم الغليظ المتآمر الذى زج به فى مأزق كبير بمنحه مسدسًا ليدافع به عن نفسه ضد الغلاظ- وهو أولهم- وهو يعلم جيدًا أن المهرج سيسىء حتمًا استخدام السلاح لاضطرابه النفسى وعدم اعتياده على حمل السلاح العشوائى البعيد كل البعد عن مهنته كمهرج يحاول دومًا إسعاد الناس. رب العمل الذى فصله من عمله فصلًا تعسفيًا بعد وشاية الزميل الذى استحق المصير الذى ناله فى نهاية الفيلم على يد الجوكر الذى مارس القتل العمدى بعد أن حرموا عليه الضحك، وبعد أن أفشل له الجميع مشروعه الأساسى فى الحياة، وهو السعادة ومحاولة تحقيقها عبر الكوميديا.. لقد حول الغلاظ والرأسماليون النيوليبرال المهرج البسيط الضاحك لقاتل.. يقتل لا إراديًا بدم بارد وبمنتهى البساطة والأريحية تمامًا كما كان يضحك لا إراديًا.
لقد تحول المهرج لقاتل مطارد من البوليس تتهافت عليه برامج «التوك شو» التى حلم يومًا بالوقوف فيها أمام المذيع الشهير «موراى فرانكلين»- «روبرت دى نيرو» فى الفيلم- والذى سخر منه، فقتله الجوكر على الهواء مباشرة.
الجوكر المهمش خانه الجميع.. ونبذه الجميع حتى أمه التى كرس حياته لها خانته وكذبت عليه وهزمته.. الكل هزمه وتركه وحرموه جميعًا من متعته البريئة الوحيدة ومهنته التى يحبها.
لم يرضوا به مهرجًا بسيطًا فصار قاتلًا!
حتى علاجه ودواؤه حرم منه، وكان ذلك بمثابة تصريح وتفويض له بأن يفعل لنفسه بنفسه ما يحلو له بعد أن حُرم مما كان يحلو له ولا يضر الغير فى شىء.. لقد استبدل الجوكر ما كان يحلو له بما أصبح يروق له وهو القتل.. لقد استبدل الجوكر الكوميديا بالقتل والملهاة بالمأساة.
فسخرية الغلاظ من رغبته فى الضحك والإضحاك جعلته يقتلهم جميعًا بعد أن أصبح القتل مهمته الجديدة فى مدينة «جوثام».
القتل القبيح هو الشىء الوحيد الذى استطاع به الجوكر مواجهة القبح الذى يعيش فيه، حتى راق سلوكه الفردى وقناعه الضاحك لبقية المهمشين، فاعتمدوا القتل بالقناع الضاحك طريقًا لهم، وجعلوا من الجوكر بطلًا شعبيًا ورمزًا يستلهمون منه وينفسون من خلاله عن غضبهم وضيقهم.
لم يكن الجوكر قائدًا ولم يدع غيره لشىء، لقد عاش حياته فى المرحلتين وفى الحالتين «حالة المهمش وحالة القاتل»، كما استطاع هو أن يكون.. فصار بمحض الصدفة العبثية- ودون أدنى جهد يذكر أو مؤامرة- ملهمًا للجماهير!
جعله الغلاظ قاتلًا وجعلته الجماهير بطلًا وكان هو ما هو عليه. لم يكن مدفوعًا من أحد أو محرضًا لأحد، لكنه صار رمزًا واسمًا ذاع صيته، سيتذكره الكثيرون دومًا كما حدث فى السينما المصرية من قبل مع شخصية «عرفة مشاوير» فى فيلم «الهلفوت»، و«عامل القطار» فى فيلم «المنسى»، والموظف الذى أراد نقل أبنائه لمدرسة قريبة من بيته فى «الإرهاب والكباب»، وفى السينما الأمريكية جسد «إدوارد نورتن» الشخص الذى تخلى عن وظيفته وممتلكاته التى ملكها، وانضم لنادى القتال فى فيلم «fight club» الذى تنبأ بسقوط البرجين وأحداث ١١ سبتمبر، وربما أيضًا شخصية توم هانكس فى فيلم «فورست جامب» ذلك الرمز غير المُسيس الذى عشقه مريدوه دون أن يكون قائدًا أو داعية ليتبعه الناس، ناهيك عن أجواء أفلام مثل «taxi driver» و«king of comedy» و«the network» والتى استدعاها متابعو الفن السابع، واسترجعوا الكثير من مشاهدها عند مشاهدتهم فيلم «الجوكر» ذا النهاية المحيرة، والذى أحدث عصفًا ذهنيًا لدى غالبية متلقيه.
فهل ما فعله «الجوكر» كان واقعًا أم محض خيال؟
هل الفيلم يحمل فى طياته رسائل تحريضية تدعو للغوغائية وتمهد الطريق للأناركيين؟
انحياز واختيار مخرج العمل لمشهد النهاية الذى يظهر فيه الجوكر وحيدًا فى مصحة، مرتديًا ملابسه البيضاء ووجهه خالٍ تمامًا من ألوان المهرج التى كست وجهه طوال زمن العمل تقريبًا- حتى وإن ظهرت خطواته على الأرض مخضبة بالدماء- لا للمشهد الذى يظهر فيه الجوكر بوصفه البطل المسجى فى دمائه، والذى قام من فوق إحدى السيارات المحترقة ليؤدى رقصته الشهيرة تحيةً وترحيبًا بالجماهيرالمتجمهرة أمامه فى الميدان، وقد رسم- بالدماء هذه المرة- تلك الابتسامة المعهودة على وجهه لهؤلاء المهللين.. يسقط بالنسبة لى تلك الفرضية ويجيب عن السؤال الأخير بالنفى، ومن ثم يزول مفعول وأثر تلك الابتسامة الدموية التى راقت للمتجمهرين وربما للمشاهدين، ليبقى الجوكر حالة فردية ملهمة سنعرف نهايتها ربما فى الجزء الثانى من الفيلم الذى لا أعتقد أن مخرجه سيكسل عن إنتاجه.. سنرى.