رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الباشا التركى والدرس الأمريكى


لا يزال «رجب طيب أردوغان» يتعامل مع الوضع العربى كما كان أجداده من الترك الطورانيين والعثمانيين يتعاملون، بنفس الغلظة والاستبداد والغرور والعنجهية، والأنانية فى تغليب مصالح عصبيته ونظامه وطبقته الحاكمة على مصالح كل الأطراف الأخرى مجتمعة، وهى السياسات التى قادت المنطقة العربية، وغيرها من مناطق العالم، إلى مستنقع من الجمود والبطش والتخلف، دام أكثر من ستة قرون كاملة «١٢٩٩- ١٩٢٣»، ما زلنا نرزح فى مخلفاته وتبعاته، وما زالت آثاره تمثل جانبًا مظلمًا ومأساويًا فى تاريخ شعوب وقوميات عديدة، كالأرمن والسلاف واليونانيين وغيرهم.
ومن اللافت أن الأحداث التى وقعت مؤخرًا فى الشمال والشمال الشرقى لسوريا، وتوجت باجتياح الجنازير الأردوغانية الباطشة مناطق سورية ذات أغلبية كردية، وإمعان القتل والتنكيل والترويع بقاطنيها، وطرد مئات الآلاف من السوريين والأكراد العزل من بيوتهم ومدنهم وقراهم وبلداتهم إلى معسكرات التهجير والعزل العنصرى- ما هى إلا تكرار و«نقل مسطرة» للسلوك السادى للعصابات والقوات الصهيونية المحتلة، فى تعاملها الإجرامى مع الشعب الفلسطينى، منذ اغتصاب الأرض وإعلان الدولة الإرهابية اليهودية وحتى الآن. ولأن «أردوغان» يعرف واقع العالم العربى المُفكك والمترهل والمُفتَت والمُتصارع أقدم على هذه الخطوة الخطيرة التى ما كان يُغامر بالإقدام عليها لو كان يتوقع رد فعل عربى «عملى» رادعًا، لكنه يعرف، يقينًا، كما تعرف إسرائيل وأمريكا والغرب، حقيقة العرب كـ«ظاهرة صوتية»، تتصايح ولا تؤذى، وتتلاسن ولا تفعل، للأسف الشديد.
وفى هذا السياق، من المهم أن يعى الجميع من الكرد والعرب مضمون «الدرس الأمريكى» الذى لَقّنه إياهم «الباشا التركى» الفظ المتعجرف، فكل الوعود والتعهدات الأمريكية التى قُدِّمت إلى الأكراد بإفراط، حتى ظن البعض أن أحلامه التاريخية المُستدامة فى الدولة والعلم، برعاية «الأب الأمريكى» الحنون، قاب قوسين أو أدنى من التحقق، ذهبت أدراج الرياح، فقد تملَّص الأمريكيون، من كل اتفاقاتهم مع الطرف الكردى، وتركهم «ترامب» عرايا بلا نصير مكشوفى الظهر فى الصحراء، فريسة لأنياب حليفه الاستراتيجى التركى، وعضو حلف «ناتو» الذى يُشاطره المنطلقات والأهداف، وهو حدث جديد يُضاف إلى مئات غيره، ما انفك عالمنا العربى يواجه أمثاله كل يوم، يؤكد على نجاعة وصحة القول الدارج: «المتغطى بأمريكا عريان»، سواء أكان هذا «المتغطى» حكمًا، أم حزبًا مُواليًا أم مُعارضًا، أم جماعات تمويل، أم غيرها من الألوان والأشكال.
أما الدرس الآخر الواجب الالتفات إليه فهو الدرس المُستقى من موقف جماعة «الإخوان» فى سوريا، من أحداث العدوان التركى على التراب الوطنى السورى. فمُجددًا تُثبت «الجماعة» لا وطنيتها الكامنة فى نخاعها وجيناتها، وتُقدم بصفاقة مفضوحة على ركوب مركب العدو الغازى، بإعلان تأييدها ومباركتها هذه الخطوة التركية المُجرمة، التى كبّدت أبناء الشعب السورى، على اختلاف طوائفهم واتجاهاتهم، أهوالًا ومشقات غير محدودة، متخلية عن شرف الدفاع عن الأرض، وقيمة الانتماء للوطن، وواجب الذود وقت الحاجة عن قداسته واستقلاله.
ويبقى أن نشير إلى أنه «رُب ضارة نافعة»، كما يقول المثل العربى الدارج، فالتطورات المتواترة الخطيرة التى كانت أراضى شمال سوريا وشمال شرقها مسرحًا لها، طوال الأيام الماضية، وشملت فيما شملت مواقع ومُرتكزات وقرى ومدنًا كردية، وما حلَّ بالشعب الكردى فى هذه البقعة من ويلات، واجهت الطرف الكردى بواقع أنه لا مفرّ من الوصول إلى اتفاق مع الجانب السورى فى دمشق، لمواجهة فداحة العدوان ومخاطره وقوته الغادرة، وهو أمر طيب للغاية، وإن تأخر حدوثه طويلًا.