رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ولما كان العام السادس بعد الأربعين على النصر


ولما كان العام السادس بعد الأربعين على نصر أكتوبر، أرى أنه لا يجب أن نتوقف عن سرد حكاوى أكتوبر الأسطورية ونتذكر، ونذكر أجيالنا الطالعة بهذا العمل المجيد، وعلى طريقة كاتب أسطورة ألف ليلة وليلة الكاتب العبقرى طاهر أبوفاشا، يمكننا الحديث عن نصر أكتوبر من كل جوانبه، عندما يحل السادس من أكتوبر، وأن نردد أنه لما كان العام كذا بعد كذا تعالوا نتذكر النصر الأهم لمصر والعرب فى تاريخ مصر الحديث.
لقد كانت إدارة حرب أكتوبر نموذجًا عبقريًا للإدارة المتميزة.. إدارة التفوق.. إدارة الجودة، بعد أن كاد يحسبنا العالم من الدول التى تكتفى بأدوار المتابعة والمشاهدة فقط لتطبيقات نظريات التميز والجودة فى انبهار العاجزين الفاشلين القابعين فى دوائر الانتظار.. وعليه، فلنتذكر بعضًا من فصول الأسطورة المجيدة.
كان يا ما كان أنه لما كان الهدف قد تم تحديده بوضوح وثبات، وعبر دراسة موضوعية علمية.. ولما كانت المصلحة الوطنية تقتضى المضى بقوة نحو استعادة الأرض..
ولما كان الوعى بالقدرات والإمكانيات وبالتاريخ والجغرافيا والأهم بتركيبة الإنسان المصرى فى أعلى درجات الشفافية والدقة والاتزان.
ولما كان ما كان، تابع العالم كله أداء الإدارة المصرية العبقرية لفنون الحرب، والهجوم والخداع والتدبير، والتفكير والإيهام والتنويع فى الخطط والتسليح والتحفيز والتعبئة والشحن والترتيب والتخطيط والإيثار والتجويد، والعمل بروح الفريق وانتشار القيادات فى صفوف القوات.
ولما كان على مصر أن تقدم على هذا الإنجاز المصرى العظيم فى وقت كانت فيه الأمة العربية مستهدفة تمامًا، وكانت المؤامرات الأجنبية تحيط بالمنطقة من كل جانب، وكانت الاتهامات توجه للمنطقة العربية بشكل عام ومصر بشكل خاص بالتقاعس والتخاذل والوهن.
ولما كان هذا هو الحال، فإن ما قدمته مصر فى حرب أكتوبر هو أنها حققت رد الاعتبار الوطنى لمصر والعالم العربى دون تشدق بشعارات القومية العربية.
ولما صار الكلام هنا وهناك عن حكاية سخيفة ودعاوى أشد سخفًا حول ما إذا كانت حرب أكتوبر حرب تحرير، أم أنها كانت مجرد مسرحية لتحريك الوضع، وكأن تكليف السادات لقواته المسلحة الواضح المحدد بتنفيذ المهام الاستراتيجية لم يكن يا منعدمى البصر والبصيرة.. فلأذكركم بها:
إزالة الجمود العسكرى الحالى بكسر وقف إطلاق النار اعتبارًا من ٦ أكتوبر ١٩٧٣.
تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات، ثم والأهم.. التكليف بالعمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.
إن الصدمة المرعبة التى روعت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية مع الساعات الأولى لحرب أكتوبر، وهى المؤسسة المغرورة بنصر الأيام الستة عام ١٩٦٧، وتغيير نظريتها الأمنية الخاطئة، المبنية على الحدود الآمنة، من خلال موانع طبيعية، وأخرى صناعية يؤكد أن قرار أكتوبر لم يكن عملًا عشوائيًا أو تليفزيونيًا، إنما هو عمل عبقرى مدروس بعناية وتخطيط استراتيجى علمى بإدارة لم تترك للصدفة والاحتمالات أى مجال.
وفى مجال الحواديت الأسطورية، يحكى لنا أيضًا اللواء عبدالجابر أحمد على فى كتابه «أكلة الدبابات».. كتب: كانا صديقين حميمين فى الكتيبة- إحدى كتائب الصواريخ، حيث ذكرنا من قبل المهمة التى نعد من أجلها- فى مركز التدريب جمعت بهما الأقدار فى مكان واحد يقيمان فيه، وأيضًا تدربا على نوع واحد من السلاح، كل منهما أصبح موجهًا للصواريخ المضادة للدبابات ضمن أكلة الدبابات، هذان الصديقان هما جعفر بيومى وصبحى يعقوب.. فى غمرة الفرح والانتصار على العدو وأصوات الطلقات حول الأبطال ودانات المدافع تمطرهم بكل أنواع الأعيرة وفى خلسة وغدر التفتت إحدى الدبابات فى غفلة من قواتنا من الخلف- خلف الموقع الذى به بيومى ويعقوب، ورغم أن الاشتباكات لم تنقطع عن العدو- ارتفع صوت أحد الأفراد يحذر جعفر بأن هناك دبابة فى الخلف تقترب من الموقع، وكذا حذر صبحى التحذير نفسه، وجهت الدبابة القريبة موجة نيران رشاشاتها الكثيفة نحو جعفر، لم يسمع جعفر التحذير، سمعه صبحى أسرع نحو صديقه ينبهه إلى الخطر، حيث اقتربت هذه الدبابة منه، اندفع كالمجنون قفز فوقه فى محاولة لإخفائه فى حفرته عن النيران، ولكن نيران القدر كانت أسرع منه، حيث وجهت الدبابة نيرانها إلى يعقوب وبيومى وهما يحتضنان بعضهما، كل منهما يحاول أن يحمى الآخر، بعد أن اخترقت الرصاصات جسديهما، وكانت كثيفة وسريعة ورقدا والدماء الغزيرة تنزف منهما واختلطت دماؤهما على الرمل، كما اختلطت أنفاسهما فى لحظة واحدة، وأصبحا كجسد واحد ونالا الشهادة فى وقت واحد.. استشهدا بعد أن دمرا ست دبابات كل منهما ٣ دبابات، حتى فى تدمير الدبابات تساويا.. هذه هى البطولة.. إنها الوحدة الوطنية المقدسة على أرض مصر.