رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العراق المضطرب


مظاهرات العراق اشتعلت بداية أكتوبر، بالعاصمة والمحافظات الشيعية جنوب البلاد، بدأت على مواقع التواصل الاجتماعى بمطالب بسيطة؛ تحسين الخدمات العامة «الكهرباء ومياه الشرب..»، وتوفير فرص عمل، ومحاربة الفساد، وتوجت بالدعوة لإنهاء التدخل الأجنبى «الإيرانى والأمريكى»، لأنه أوقع العراق فى حصار مميت، نتيجة للتوترات المتصاعدة بين الدولتين؛ بينما يستضيف العراق آلافًا من القوات الأمريكية، ولديه ميليشيات «الحشد الشعبى» التابعة لطهران.
الاضطرابات على الأرض تصاعدت إلى حد المطالبة باستقالة الحكومة، وتميزت بالعفوية، واعتمادها على الأغلبية الشيعية التى تشكل القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام.. لم تشارك فيها الأحزاب السياسية، ولا المناطق السنية، التى تستشعر الحصار، وتتوقع القمع بتهمة الانتماء لـ«داعش»، أو لحزب البعث المنحل.. السلطات فرضت حظرًا للتجوال، تحداه المتظاهرون، فاضطرت لرفعه.. حجبت الإنترنت فاشتعل الغضب.. واستخدمت الشرطة مدافع المياه للتفريق، وقطعت بعض الطرق الحيوية بالعاصمة، وعطلت الدوام الرسمى.. هيئة الإعلام والاتصالات دعت لتوخى الدقة فى التعاطى مع أخبار التظاهرات، تجنبًا للتصعيد، وخدمة أصحاب المصالح.
العراق يمتلك رابع أكبر احتياطى نفطى فى العالم، لكن قرابة ربع السكان يعيشون دون حد الكفاف.. البطالة بين الشباب القادرين على العمل ١٧٪، حرب داعش أنهكت الدولة، وألحقت بها الدمار، مليون شخص مازالوا مشردين، ٦.٧ مليون فى حاجة للمعونات الإنسانية، والدولة بحاجة لـ٨٨ مليار دولار لتمويل خطة الإعمار.. العراق يمتلك ١٩ جهازًا رقابيًا لمحاربة الفسادين الإدارى والمالى، حيدر العبادى أنشأ مجلسًا أعلى للمكافحة، حقق فى ٢٩.٠٠٠ قضية، شملت ٣٤.٠٠٠ متهم، منهم ٤٨ وزيرًا، و٤٨ نائبًا، و٣٩ محافظًا، و٤٣٨ عضو مجلس محافظة، و٦٢٤ مديرًا عامًا، وأصدرت أكثر من ٢٠٠٠ أمر قبض عام ٢٠١٧، بينهم ٢٩٠ مسئولًا حكوميًا، ولكن كل ملفاتها ما زالت مفتوحة، لم تبلغ نهاياتها بعد!!.. عادل عبدالمهدى شكل برئاسته المجلس الأعلى لمكافحة الفساد يناير ٢٠١٩، ضم الرؤساء التنفيذيين للمؤسسات المركزية المخولة بمكافحة الفساد، ليكون بمثابة الجهاز التنفيذى للمكافحة، ترأس جلسته الخاصة ببحث نتائج تحقيقات هيئة النزاهة بشأن الموظفين الصادرة بحقهم أحكام قضائية تتعلق بالاختلاس وإهدار المال العام، وقرر تنحية ألف موظف بمختلف المؤسسات.
رغم تلك الجهود تراجع العراق للمرتبة ١٦٦ من أصل ١٧٦ دولة، فى معيار الشفافية، ليصبح من أكثر دول العالم فسادًا ٢٠١٩.. تقديرات عبدالمهدى لخسائر الفساد تجاوزت ثلاثمائة مليار دولار، لكن البنك الدولى ومنظمة الشفافية الدولية قدرا حجمه بـ٦٠٠ مليار، أما تقديرات الأجهزة الرقابية فتشير إلى ابتلاعه نحو ٤٥٠ مليارًا من الأموال العامة، منذ سقوط نظام صدام حسين ٢٠٠٣.. الفساد أمسك بخناق قرابة ٩.٠٠٠ مشروع، بعضها وهمى والآخر متعثر منذ ٢٠٠٤.. الحكومة الحالية كشفت مؤخرًا عن قرابة ٤٠ ملفًا جديدًا للفساد، وما زال هناك ١٥ ألف ملف بانتظار التحقيق.. البرلمان تعهد بإقرار حزمة تشريعات لدعم هيئة النزاهة واسترداد أموال الدولة، وإيجاد حلول للمشاريع الوهمية والمتعثرة، وكان الأولى به البدء بمراجعة قانون «العفو العام» الذى أقره ٢٠١٦، ويعتبر بوابة الفساد الخلفية، لأنه سمح للفاسدين بالهروب خارج العراق، والتنصل من جرائم المال العام، دون محاسبة.
تداولت الأنباء أخبار إطلاق قوات «مكافحة الشغب» الرصاص الحى على المتظاهرين، فأردت أكثر من مائة قتيل، و٦٠٠٠ جريح، لكن هناك شواهد أثارت الشكوك، أهمها قتل ٨ من رجال الشرطة، والتخريب المتعمد لـ٦٠ مبنى عامًا ومقرًا لأحزاب سياسية، وذلك رغم تأكيد الداخلية عدم وجود أوامر باستخدام العنف، وأن دورها حماية المتظاهرين والممتلكات من المندسين، وأنه لم تقع صدامات إلا عندما اضطرت لمنع المحتجين من اقتحام مطار بغداد الدولى، وكذا وضع حد للتصعيد بمدينة الصدر شرق بغداد.. تفسير ذلك أن ميليشيات «الحشد الشعبى» حاولت تشتيت المتظاهرين، خاصة بالمناطق التى رفعت فيها شعارات منددة بالنفوذ الإيرانى؛ فشكلوا مجاميع من الملثمين بالملابس السوداء، أطلقوا عليهم «فرق الموت»، وزعوهم على المبانى المرتفعة المحيطة بساحات التظاهر، لقنص المتظاهرين وعناصر الشرطة، لإرباك الموقف، وتصعيد العنف.. إيران افتتحت غرفة عمليات بسفارتها ببغداد للإشراف والمتابعة، ودعمت القناصة بعناصر من «الوحدة ٤٠٠» التابعة لفيلق القدس المسئول عن تنفيذ الاغتيالات بالخارج، بينها عناصر من حزب الله اللبنانى.
«تحالف المحور الوطنى» علق عضويته بمجلس النواب، بعد ساعات من توجيه مقتدى الصدر نواب تحالفه «سائرون» الذى يضم «التيار الصدرى» و«الحزب الشيوعى»، إلى تعليق عضويتهم فى البرلمان، لتفويت الفرصة على استخدام السلطة التشريعية كأداة للفوضى وابتزاز السلطة التنفيذية، وإعاقة عمل الوزراء بالتلويح بالاستجواب أو الإقالة لتمرير صفقات مشبوهة من بعض الأطراف، وربط العودة بصياغة موقف جاد مع باقى الكتل السياسية، يبدأ ببرنامج حكومى يلبى مطالب الشعب، وتصحيح مسار العملية السياسية، وفتح تحقيقات جادة عن الفساد فى تسمية رؤساء وأعضاء اللجان بمجلس النواب، وكذا بآليات سن القوانين.
الحكومة أدركت أن تكرار التظاهرات الاحتجاجية على سوء الأوضاع الاقتصادية والمعيشية يهدد الاستقرار فى البلاد، لذلك اتخذت مجموعة أولى من القرارات الجيدة للتهدئة «صرف رواتب لـ٦٠٠.٠٠٠ أسرة تستحق الرعاية الاجتماعية، تخصيص أراضٍ سكنية لذوى الدخل المحدود، برنامج وطنى للإسكان لبناء ١٠٠ ألف وحدة سكنية، منح ١٥٠.٠٠٠ عاطل منحة شهرية لمدة ثلاثة أشهر لحين توفير الأكشاك المخصصة لهم، تدبير فرص عمل جديدة بتنشيط قروض المشاريع المتوسطة والصغيرة، وفتح باب التطوع فى الجيش، وإعادة بعض المستغنى عنهم إلى الداخلية».
إيران تدرك أنها أول المتضررين من الاضطرابات الراهنة، كما تعى خطورة استمرارها، وحتمية امتصاص غضب الشارع، حتى لا يتحول إلى رفض صريح لوجودها.. اتهمت إسرائيل والسعودية وأمريكا وبريطانيا بتحريكها، وأغلقت معبرى «خسروى وجذابة» الحدوديين اللذين يستخدمهما الزوار، بسبب تطور الأوضاع الأمنية، لأن الاضطرابات وقعت قبل بضعة أيام من ذكرى أربعينية الحسين، التى تجتذب نحو ٢٠ مليونًا من شيعة جنوب العراق وإيران، لزيارة المراقد المقدسة بكربلاء والنجف والأشراف، وهى تسعى لتوفير طرق بديلة، يتم تأمينها بالتنسيق مع «الحشد الشعبى» العراقى.
أما الأزمة السياسية فإن طهران قد تستغل نفوذها وتضحى بالحكومة الحالية، وتدفع باتجاه إجراء انتخابات مبكرة، قد تأتى بأغلبية من الموالاة.. وفى حالة عدم حدوث تغيير لمراكز القوى فقد تلجأ للهروب بالحشد الشعبى إلى الأمام، لأن القرار الصادر بحله، وما تلاه من هجمات جوية ضد معسكراته، يستهدف تصفيته، ما قد يدفعها لاستنساخ تجربة الحوثيين، وإشعال أى اضطرابات مقبلة، لتوفير المناخ للانقلاب على السلطة، والاستئثار بها، ما يفرض على الدولة والجيش اليقظة، والتحسب من الآن لهذا الاحتمال بالغ الخطورة.