رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

.. وستظل مصر هبة النيل




شق النيل مجراه قبل ملايين السنين، قبل البشرية وظهور الإنسان، وأصبح الرافد الأساسى فى تغذية مصر بالمياه، وصار هو نبع الحياة لقاطنيها، حتى قال هيرودوت: «مصر هبة النيل»، ويجب أن يظل كذلك، مع تسليمنا أن ٨٥٪ من مياهه تأتى من منابع النيل الأزرق الإثيوبية.
لذا، فمصر لا تريد أن تتأثر حصتها هذه مطلقًا، من جرّاء ملء خزان سد النهضة، تجنبًا لأى أضرار لمواطنيها.. وقد عكف وزراء الرى فى السودان ومصر وإثيوبيا، خلال اجتماعهم الذى انعقد يوم الجمعة الماضى بالخرطوم، على بحث كيفية التوصل إلى حل مُرضٍ لجميع الأطراف، ولكن يبدو أن إصرار الجانب الإثيوبى على موقفه، وضع مصر فى موقف، يحتم ضرورة الرد على ما قالت إثيوبيا، من أنها تقدم ٣٥ مليار متر مكعب سنويًا من المياه لمصر، على مدى سبع سنوات، الفترة المُقترحة لملء الخزان.. بالرغم من أن الرئيس عبدالفتاح السيسى أكد قبل أسبوعين، أنه «لن يتم تشغيل سد النهضة بفرض الأمر الواقع، ولا بد من الحفاظ على حصة مصر المائية كاملة، والدولة مستمرة فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات على الصعيد السياسى وفى إطار محددات القانون الدولى لحماية هذه الحقوق»، ووعد الرئيس بأن يظل «النيل الخالد يجرى بقوة، رابطًا الجنوب بالشمال برباط التاريخ والجغرافيا»، لأنه سيكون لذلك تأثير كبير على تنميتها، وأمنها المائى والقومى، ناهيك عن حصتنا التاريخية فى مياه النهر التى يجب ألا تُمس.
كلام الرئيس السيسى واضح ولا يحتاج إلى تفسير. فتخفيض حصة مصر من المياه يعنى «إعلان حرب»، لا يُمكن أن يمر دون التصدى له بكل الوسائل، «تابعت عن كثب، نتائج الاجتماع الثلاثى لوزراء الرى فى مصر والسودان وإثيوبيا لمناقشة ملف سد النهضة الإثيوبى، والذى لم ينتج عنه أى تطور إيجابى، وأؤكد أن الدولة المصرية بكل مؤسساتها ملتزمة بحماية الحقوق المائية المصرية فى مياه النيل»، وبدأت أصوات من جميع الأطياف فى مصر تدعو لحتمية الحل، إذا لم يتم احترام مطالبنا، لأن مصر التى زاد عدد سكانها على مائة مليون نسمة، تحتاج إلى حصص مياه أكبر، وليس تقليصها، وأكثر من ٩٠٪ من أراضيها صحراء، ومياه النيل بالنسبة لنا، مسألة حياة أو موت.
المشكلة متشابكة وتتطلب الحكمة، التى يتميز بها الرئيس السيسى فى إدارتها، جنبًا إلى جنب مع إظهاره قوة مصر، وقدرتها على التصدى لحماية مكتسبات شعبها، لأنه من الخطر أن تتحول أزمة المياه إلى نزاع تنتج عنه عواقب إنسانية حادة، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق لتقاسم الموارد بين مصر وإثيوبيا.. فما حدث فى السودان، أدى إلى أن تسعى الثورة هناك إلى إعادة إدارة العلاقات الخارجية لبلادها بما يُعظم مصالحها، مع وعود إثيوبيا لتحقيق فوائد للخرطوم من سد النهضة، فى الوقت الذى تتمسك إثيوبيا بسعيها لعدم إضاعة مزيد من الوقت، بعد تعثر العمل على إنهاء السد لبضعة شهور.. ولذا فقد يلعب السودان دور الوسيط لتهدئة الأمور بين مصر وإثيوبيا، مع حفظ مصالحه كطرف أساسى فى المشكلة، مع استبعاد الحل العسكرى، لأن الإقليم كاملًا، بما فيه السودان، يميل إلى تحقيق الاستقرار، بما يعنى استمرار المفاوضات لفترة أطول لحين الوصول إلى شكل من أشكال التوافق قبل تشغيل السد، حتى إن كان هذا التوافق غير مرضٍ بشكل كامل لجميع الأطراف.
لكننا، وفى ظل وجود تقارب فى الموقفين السودانى والإثيوبى، طلبنا دخول طرف رابع حيادى، لتسهيل عملية التفاوض، هو الولايات المتحدة، باعتبارها الوسيط المقبول من كل الأطراف، علاوة على ثقليها السياسى والاقتصادى، ونفوذها الكبير على جميع الأطراف.. الولايات المتحدة، من ناحيتها، استشعرت احتمالات تفاقم هذه الأزمة، وزيادة حدة التوتر بين أطرافها، وأصدرت بيانًا أعلنت فيه دعمها للمفاوضات الثلاثية الجارية حاليًا للتوصل إلى اتفاق يحفظ حقوق الجميع، لتحقيق الازدهار والتنمية الاقتصادية المُستدامة، بالإضافة إلى احترام دول وادى النيل لبعضها البعض، فيما يخُص حقها فى المياه.. وفى رأيى، أنه جرى انتقاء كلمات البيان الأمريكى بعناية فائقة، حينما نص على «الاحترام المُتبادل لدول وادى النيل لبعضها البعض، فيما يخُص حقها فى المياه».. فهل يمكن بعد ذلك، تدويل القضية، لكون الأزمة بين مصر وإثيوبيا مهددة للاستقرار الإقليمى، بما ينعكس بالتالى على الأمن الدولى؟.
أمام مصر، حال استمرار الأزمة مع إثيوبيا، خيارات عدة.. التقدم بشكوى لمجلس الأمن الدولى، على أن تبذل جهودًا كبيرة لإقناع الأعضاء الدائمين، بما فيها الولايات المتحدة، لعدم استخدام حق فيتو ضد الشكوى المصرية.. وإذا تم قبول الشكوى فى مجلس الأمن، سيتم تحويل القضية إلى محكمة العدل الدولية للبت فيها، ثم تصدر المحكمة حكمها وترسله إلى مجلس الأمن، كى ينفذه باعتباره الذراع التنفيذية للأمم المتحدة، والخيار الآخر هو لجوء مصر إلى دول صديقة ذات علاقات قوية مع الطرفين، خاصة الصين والولايات المتحدة للمساعدة فى التوصل لحل، بالإضافة إلى اللعب على ورقة سحب الاستثمارات المصرية من إثيوبيا، والتى تقدر بخمسة مليارات دولار، للضغط عليها، وحث دول الخليج أيضًا، لوقف استثماراتها هناك، وحث إيطاليا، التى تقوم شركاتها بتنفيذ المشروع، على الامتثال لقواعد البنك الدولى، التى تنص على عدم مساعدة أى دولة فى إقامة مشروعات تؤدى إلى نقص المياه أو تأخير وصولها للدول الأخرى، فى أى حوض من أحواض الأنهار.
على أنه لا بد أن ننظر لأزمة سد النهضة، باعتبارها واحدة من التحديات العظام التى تواجهها مصر، فى معركتها للبقاء، قوية عفية، ولا يجب علينا بحال، أن نغض الطرف عن الوجود الإسرائيلى فى إفريقيا، خاصة أن تل أبيب لعبت دورًا هائلًا فى بناء مصالح لها هناك، فى ظل الغياب العربى، وتراجع النفوذ المصرى فى القارة السمراء، بالإضافة إلى مساعيها للسيطرة على منابع نهر النيل فى منطقة الهضبة الإثيوبية، والتى ترفد نهر النيل بحوالى ٨٥٪ من مياهه، وكانت قد قدمت دراسات تفصيلية إلى الكونغو ورواندا لبناء ثلاثة سدود، كجزء من برنامج شامل لإحكام السيطرة على مياه البحيرات العظمى.
خلاصة القول.. إن إسرائيل، من خلال تغلغلها فى إفريقيا، تهدف إلى استكمال خطة الطوق الإفريقى، عبر آليات عدة، منها شراء العدد الأكبر من السندات فى سد النهضة، والتعامل مع مصر من خلال هذا الطوق، وإيجاد آلية للتعاون مع الصين، التى تملك الكثير من الشركات والمصالح فى القارة، ومحاولة إغراق مصر فى المشكلة لابتزازها فى المواقف السياسية.. فهل ينجح أهل الشر، أم سنكون نحن الغالبين؟.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.