رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

"الجوكر".. عندما يُغادر البهلوان السيرك



متى ضحكت على ألعاب البهلوان؟، وفي أي مرحلة عمرية كان يُثير ضحكك؟، ولماذا أصبح يُثير لديك الرثاء والشفقة؟؛ بل ولماذا يُخيفك أحيانًا؟، ربما لأنه مجهول الملامح؟أم لأنه كاذب ويدعي السعادة، في حين أنه ينزف جرح داخلي غير مرئي؟.
أثارت شخصية البهلوان خيال السينمائيين منذ أن أداها شارلي شابلن وأخرجها فيدريكو فيلليني، وكتب عنها العديد من كُتّاب الدراما النفسية مثل ستيفن كينج،والذي قدّم شخصية أشهر بهلوان مرعب في عالم الأدب والسينما. رغم هذا يبقى السؤال الأهم وهو لماذا نخافه؟.
"المهرج مضحك فى حلبة السيرك.. لكن ما شعورك لو فتحت بابك بعد منتصف الليل لتجد نفس المهرج واقفًا فى ضوء القمر؟".
هكذا قال الممثل العظيملون تشانى الأكبر؛ ربما هذا ما يجعلنا بدورنانشعر بالخوف من شخص يُطلي وجهه بألوان مُبهجة وزاهية، والتي من المفترض أن تعكس شعور البهجة على المشاهدين؟. قد نجد الإجابة عند صلاح جاهين في أغنية "شيكا بيكا" من فيلم "المتوحشة" وعند المخرج فيلليني في فيلم "لاسترادا" في شخصية "زمبانو"، التي لعبها أنطوني كوين، والمخرج باز لورمان في فيلم "الطاحونة الحمراء"، وبالطبع"السيرك"الذي أدى فيه الدور ببراعة شديدة شارلي شابلن،أو حتى عبر مثال محلي للغاية عند نجيب الريحاني، الذي لم يؤد دور البهلوان أو قامبصبغ وجهه بالألوان، ولكنه دائمًا ما يُقدّم دور الضاحك ذو الوجه الملون والقلب النقي شاهق البياض، والملون بلون الأحزان والهزيمة، شأنه كمعظم البهلوانات المنبوذين والمهزومين الذين يضحكون على هزائمهم، ويعتقد الآخرين أنهم فرحين.

"الجوكر" الذي صنع ثورة يتمناها جميع المهمشين
آرثرفليك ممثل كوميدي فاشل لا يُثير ضحك مشاهديه،أو كما اعتاد أن يُقدّم نفسه في تعريف مثير للشفقة والإحباطأمام جمهوره "عندما تسألني أمي عن أحوالي في الدراسة كنت أجيبها أنه لا تعنيني المدرسة لأنني سوف أصبح ممثل كوميدي وكل ما أنطقه سوف يُضحك المشاهدين"؛ ومن ثم ينظر إلى هؤلاء الذين يتوقع منهم إطلاق الضحكات، ولكنهم لا يفعلون سوي الابتسامة في مجاملة واضحة؛ يقول "نعم.. تمامًا كما توقعت أمي". جملة كهذه كفيلة بأن تُثير الشفقة والتخوف في آن واحد، شفقة على الممثل الطامح سئ الحظ، والتخوف من ردة فعله للانتقام من العالم الذي لم يُعيره الانتباه الذي أراده.
الفيلم باختصار يدور حول تيمة بسيطة تكررت مرارًا عن فنان كوميدي فاشل ومريض نفسي، تتراكم عليه ضغوط الحياة ويتوقف الدعم الطبي الذي يمده بالأدوية، فيتحول إلى قاتل غاضب يُطلق الرصاص على كل من يقف عقبة في حياته التي أرادها أسهل مما هي عليه.
في طفولته نجد صبية الشوارع يتكالبون عليه، ويكيلون له اللكمات والركلات حتي يسقط أرضًا حزينا وباكيًا،وعندما يكبر فإن زميله الذي يتسبب في فصله عن العمل عن طريق إعطائه مسدس حقيقي، فيسقطأرضًا رغمًا عنه في أثناء عرضه أمام أطفال المشفى الذي من المفترضأن يقوم بالترفيه عنهم وليس إرهابهم، بل ويتعرض للتنكيل في عربة قطار كرد فعل نته\ج عن حماية فتاة استنجدت به من مضايقات ثلاث شباب بدت عليهم الرفاهية، فيُطلق أول طلقات مسدسه على هؤلاءالشباب، ويستمر هكذا حتى تتكاتف طبقة المنبوذين التي يُمثّلها الجوكر آرثرومن يشبهونه من الطبقة الكادحة وبعض المواطنين ذوي الأصول الأفريقية، ويصنعون منه بطل شعبي كجميع الطبقات المتواكلة التي تنتظر من يقودها حتي إذا كان بهلوان.

سيناريو عادي قام خواكين بإثراءه
"آمل فقط أن موتي يُصبح مفهومًاأكثر من حياتي..من هنا كانت البداية"..
إنها تيمة بسيطة، وسيناريو تمت كتابته بدون مجهود مضني أو حبكة سيكودرامية يتوجب لكتابتها استشارة الأطباء النفسيين. السر في أداء خواكين فينيكس، وموسيقى الأيسلندية هالدير جونادوتير التي اعتمدت بذكاء شديد على الأغاني الحزينة الكلاسيكية في مشاهد الاعتداء الجسدي غير المبرر علىآرثر البهلوان في حارة ضيقة -أول لقطات الفيلم-أو في جلسته النفسية مع طبيبته عندما يقول بعد ضحكة هيستيرية "أهو أنا فقط أم أن الوضع يُصبح أكثر جنونًا بالخارج؟" لتجيبه الطبيبة بأن الأمر أصعب بكثير، لأن الناس يُعانون بالخارج من البحث عن العمل، ومشاهد البكاء والضحك في آن واحد مثل مشهد الرقص أمام التلفزيون، والبكاء الصامت الصادر عن آرثر، وتجربته لسلاحه الجديد، الذي اعتبره ملاذ أخير يمكن في أكثر من حياة استخدامه كمصدر قوة؛ هذاإلى جانب موسيقاها التصويرية؛ ومن تلك الأغاني التي أجادت اختيارهاsmile جيمي ديورانت، وأغنية what difference a day makes لدينا واشنطن، وأغنية الموعد الغرامي لآرثر وصوفي/زازي بيتزأغنيةmy funny valentine لفرانك سيناترا feeling good لديانا سيمون،وغيرها من الأغنيات المؤثرة التي تبدو ضاحكة ومتفائلة، بينما تُخفي بين سطور كلماتها أحزان كبيرة وفاجعة غير محتملة.

We are all clown
"أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت به صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتوا ليه.. خفتوا ليه
لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس".
أن اتذكر كلمات صلاح جاهين عن حالات المهرجين يدفعني إلى الجنون، فكيف أتعاطف مع قاتل سوى أنني -ومعظم المشاهدين- وقعنا في حب هذا القاتل المريض بالضحك اللاإرادي، ولا يجد دعم الأدوية التي تجعل حالته أكثر استقرارًا، يحيا بالكاد ويرعى والدته المريضة، أعتقد أن الإجابة تقع في نفس السؤال؛ وذلك تسبب في مخاوف لدى الكثير من الحكومات بعد عرض الفيلم، في أن كل المهرجين أو المهمشين المظلومين، والضاحكين ظاهريًابينما باكية قلوبهم فيأن يتكاتفوا لصنع ثورة على الأثرياءمن السياسيين والإعلاميين الكاذبين-وما اكثرهم- من أجل تحقيق العدالة بأنفسهم، والتي عجزت حكوماتهم عن تحقيقها لهم، بعد أن يُبرز الفيلم دعم سُكّانمدينة جوثام للجوكر القاتل الغاضب، ويحملونه على الأكتاف مُهللين له وهم يرتدون قناع البهلوان مثله. هي الحالة نفسها التي انتابت سكان لندن في فيلم “V for Vendetta” فخرجوا جميعًا يرتدون القناع كرمز ناقم على السُلطة.
من أكثر الشخصيات التي أثارت حنق الجوكر، بخلاف توماس واين، السياسي ومرشح الكونجرس/ بريت كولين، هو ذات الشخص الذي دعمه في بداية حياته من خلال برنامجه الشهير هو موراي فرانكلين/روبرت دي نيرو، الإعلامي في فرصة حقيقية، وليس مادة للسخرية التي امتلأت حياتهم بها وامتلات قلوبهم حقدًاالمحبوب، والذي يسخر من أمثال آرثر، لكي يُحقق أعلى مُشاهدة لبرامجه على حساب مجموعة من (الغلابة) الطامحين وكراهية لها.
الفيلم مُثير لمشاعر الشاب المُهمّش الذي يشعر بالدونية،والذي لعبه فينيكس ببراعة منقطعة النظير. يقود فينكس جمهور المشاهدين خلفه ويتلاعب بمشاعرهم بين أصابعه في سلاسة وليونة. يشعر آرثر بالحزن فيُبكي بعض المرهفين،أو يبتسم كالطفل عندما شعر لأول مرة أن العالم يهتم به وقت أن ارتدى الداعمين له قناع البهلوان، وفي ابتسامته لصوفي جارته التي أحبها.
بين الحزن والانكسار والسعادة، يصنع المخرج آتوود فيليبس لقطات أسند فيها دور البطولة للأماكن ومدلولاتها، مثل السلالم التي كان لها دورًا كبيرًا في التماهي مع الحالة النفسية لآرثر صعودًا وهبوطًا طبقًا لحالته، بعد جولات تتراوح بين الهزيمة والانتصار. الألوان هي بطل فيليبس الآخر، حيث اتفقت الألوان مع الأحداث المُتغيرة في مزيج رائع، مثل ستائر المسرح بألوان قوس قزح قبيل إطلاقه الرصاص على الإعلامي الشهير،أو اللون الرمادي في الشوارع والأسود لأكياس القمامة المنتشرة على جانبي الطريق،مع ضخ بعض الدخان في الهواء، فتتعكر الأجواء باللون الرمادي في مشاهد القتل والانتقام، ولا سيما القهر الذي يدفعه لذلك.