رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوعى الوطنى وانتصارات أكتوبر


فى الوقت الذى نحتفل فيه جميعًا بذكرى انتصارات حرب أكتوبر ١٩٧٣، كان لا بد لنا من أن نستعيد معًا تلك الحالة غير المسبوقة من يقظة الوعى والضمير لدى جميع أطياف الشعب المصرى بكل توجهاته وانتماءاته، والتى كانت من ضمن أهم الأسباب التى أدت إلى تحقيق هذا الانتصار العظيم.
ما أشبه اليوم بالبارحة، فجميعنا حاليًا يتحدث عن ضرورة عودة الوعى الوطنى وتفعيله وتنميته، خاصة خلال هذه المرحلة المهمة من تاريخ الوطن.. والتى تكالبت فيها قوى الشر فى الداخل والخارج لمحاولة إحداث فتنة ووقيعة بينه وبين قيادته السياسية، تجعل من السهل اختراق الدولة المصرية والسيطرة عليها والعبث بمقدراتها توطئة لتقسيمها وتشتيت قوتها وقدرتها، ما يعطى الفرصة لأعدائنا أن يفعلوا بنا مثلما حدث فى العراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا.. والبقية تأتى.
حاول أعداء الوطن التأثير على جبهتنا الداخلية فى أعقاب هزيمة ١٩٦٧، وزرعوا داخل ضعفاء النفوس بيننا أسطورة أن الجيش الإسرائيلى لا يُقهر.. وأن المرحلة التالية من المعركة سوف تشمل احتلال باقى مدن الدولة المصرية إذا حاول المصريون القيام بأى عمل عسكرى ضد إسرائيل المدعومة بترسانة أسلحة على أعلى مستوى من التطور والحداثة، علاوة على الدعمين السياسى واللوجستى الذى تتلقاه من الولايات المتحدة الأمريكية.. كان من الطبيعى أن يصاب الشعب المصرى بالإحباط وهو يرى أرض سيناء وقد احتلها العدو الإسرائيلى.. ومدن القناة وقد تم إخلاؤها من سكانها.. والأوضاع الاقتصادية قد وصلت إلى أدنى مرحلة تمر بها البلاد منذ سنوات طويلة.
لقد وجدت أنه من اللازم هنا أن أشير إلى تلك الفترة العصيبة التى مرت بها البلاد منذ هزيمة ١٩٦٧ وحتى انتصار ١٩٧٣، لنعرف كيف كان للوعى الوطنى والانتماء الحقيقى لأبناء الشعب المصرى دور كبير فى تجاوز تلك الأزمة وكيف كان التأثير الإيجابى هنا له الأثر الكبير فى تحويل الانكسار إلى الانتصار.. والمحنة إلى المنحة.
ففى أعقاب تلك الهزيمة ظهرت عبارة «إزالة آثار العدوان»، وأعتقد أن جميع من كانوا فى عمر الشباب أو ما يزيد قد شارك فى تلك الملحمة، وكانت تلك العبارة تحمل الكثير من ذكريات العزة والفخار التى ما زلنا نتذكرها حتى الآن.. حيث سارع المصريون الذين صبروا وثابروا وهيأوا المناخ فى الجبهة الداخلية لكى يقدّم إخوانهم فى القوات المسلحة أعظم ملحمة عسكرية ما زالت تتحاكى بها المعاهد المختصة فى العالم كله.. ما زلنا- ونحن من الجيل الذى عاصر تلك الفترة- نتذكر ما الذى قدمه أبناء هذا الوطن من تضحيات ودعم كبير على كل الأصعدة وفى كل المجالات.. فحينما أعلن الرئيس الراحل جمال عبدالناصر مسئوليته عن هزيمة ١٩٦٧ وتنحيه عن الرئاسة خرجنا جميعًا نطالبه بالاستمرار فى قيادة البلاد حتى يتحقق النصر.. كان لدينا يقين بأن «مصر» لا يمكن أن تنهزم أو تنكسر.. وبدأت معارك حرب الاستنزاف التى شارك فيها العديد من أبناء مدن القناة مع القوات المصرية، حيث تم تكبيد العدو خسائر لا يستهان بها، ونذكر هنا، على سبيل المثال لا الحصر، تدمير المدمرة الإسرائيلية «إيلات» التى كانت تعتبر عروس القوات البحرية الإسرائيلية.. وفى الوقت الذى قامت فيه جموع الشعب المصرى بالتبرع بمعظم ما تملكه حتى وصل الأمر بالبعض إلى التبرع بخاتم الزواج، تحمل هذا الشعب الكثير ولم يبد تبرمًا او امتعاضًا أو خرج فى مظاهرات يُبدى فيها اعتراضه على ما يحدث.. حتى طلبة المدارس الثانوية فقد تم تدريبهم على استخدام السلاح بعد أن تحول الزى المدرسى إلى الزى العسكرى.. وكانت المستشفيات فى حالة استنفار دائم تحسبًا لأى طارئ.. وتحولت المصايف والبلاجات فى بورسعيد ودمياط إلى مأوى للمهاجرين من مدن القناة وتحملنا الازدحام فى المواصلات العامة، لأن الدولة توقفت عن شراء أتوبيسات جديدة نتيجة ظروف الاستعداد للمعركة.. وأصبح العثور على قطعة صابون أو الشاى والسكر من أمور الرفاهية التى يجب أن نتجنبها فى تلك الحالة.
يأتى هذا فى الوقت الذى تنافس فيه كبار الفنانين المصريين، على رأسهم سيدة الغناء العربى أم كلثوم بجولات مكوكية فى جميع الدول العربية وبعض الدول الأجنبية حتى إنها تلقت نبأ وفاة الرئيس عبدالناصر وهى فى الاتحاد السوفيتى لإحياء حفلة هناك لصالح المجهود الحربى.. وكم كان لهذه الحفلات والجولات دورها الكبير فى إيقاظ الوعى العربى وخلق حالة من التضامن بين الشعوب والحكومات العربية مع الشعب والجيش المصرى، وهو ما ظهر جليًا فى ذلك الدعم الذى قدمه معظم الدول العربية، على رأسها المملكة العربية السعودية والجزائر وليبيا والإمارات العربية.. بل لقد وصل الأمر إلى قيام العراق والأردن والسودان بدفع كتائب من قواتها المسلحة لمشاركة الجيش المصرى فى معركة الانتصار.. وصدحت الأغانى الوطنية الحماسية تلهب مشاعرنا جميعًا وتدفعنا إلى التأهب النفسى والمعنوى لخوض معركة الثأر والعزة والكرامة.
وهنا يجب أن نشير إلى ذلك الدور الإيجابى الذى نجحت من خلاله «القوى الناعمة» فى إيقاظ المشاعر والحفاظ على يقظة الوعى الوطنى والعربى لتحقيق الهدف الأسمى، وهو إزالة آثار العدوان، وتحقيق النصر الذى أصبح مطلبًا عربيًا مثلما هو مطلب مصرى فى آنٍ واحد.. وحتى على مستوى الأوضاع الأمنية- وكنا حينها ما زلنا طلبة فى كلية الشرطة وتم توزيعنا على أقسام الشرطة المختلفة فى كل محافظات البلاد- لاحظنا أن الجرائم الجنائية قد تضاءلت بشكل كبير ولم يتم تسجيل أى جريمة كبيرة أو خطيرة خلال هذه الفترة، وكأن من اعتادوا القيام بمثل تلك الجرائم قد استشعروا خطورة الموقف وصعوبة الأوضاع الداخلية والاقتصادية والمعيشية فأرادوا أن يكون لهم دور ولو كان سلبيًا بالنسبة لهم.
لم تكن معركة الوعى التى خاضها الشعب المصرى مجرد شعارات وخطب جوفاء.. بل كانت معركة حقيقية تمارس يوميًا بين أبناء الوطن الواحد، ولم يكن هناك من يدفعهم إلى ذلك سوى إحساسهم بالخطر على أوطانهم ومستقبلهم ومستقبل أبنائهم.. لم تكن هناك برامج تليفزيونية تبث يوميًا كما يحدث الآن لإيقاظ الوعى لدى شعبنا الأصيل، خاصة بين شباب المستقبل.
من ناحية أخرى لم تفلح الشائعات التى كان العدو يقوم بتصديرها عبر الوسائل المتاحة آنذاك فى التأثير على ثقة العامة وغير المتعلمين فى قيادتهم وجيشهم، بل إنها أدت إلى نتيجة عكسية تمامًا تمثلت فى تلاحمهم وتعاونهم وتنافسهم فى حب مصر والدفاع والذود عنها مهما كانت الصعاب فى هذا الوقت.
وكما بدأنا حديثنا بعبارة «ما أشبه اليوم بالبارحة»، فها نحن اليوم نواجه عدوًا مختلفًا عن ذلك الذى واجهناه وانتصرنا عليه فى حرب أكتوبر.. نواجه عدوًا جبانًا خفيًا يستخدم من مواقع التواصل الاجتماعى منصات للهجوم علينا بكل ما يملكه من أساليب الكذب والتزييف والغش والخيانة.. وبكل مستحدثات الوسائل التكنولوجية لفبركة الصور والأحاديث بأساليب مغايرة للحقيقة، مستخدمًا فى ذلك سلاح الشائعات والتشكيك للتأثير على الشباب المغيبين الواقعين تحت تأثير الحاجة والبطالة والجهل.. وبالرغم من أننا اكتشفنا مبكرًا تلك الوسائل وهذه الأساليب وراحت جميع وسائل الإعلام توضح حقيقة ما تتعرض له البلاد وتحاول أن تعمل على إيقاظ وتوعية الوعى والضمير الوطنى لدى أبناء الدولة المصرية، إلا أن هناك فئة قليلة ما زالت تقع تحت تأثير تلك الأكاذيب وهذه الشائعات.
وإلى هؤلاء أقول إن مصرنا اليوم تمر بظروف مشابهة لما تعرضنا له خلال الفترة من عام ١٩٦٧ إلى ١٩٧٣ وإن اختلفت الوسائل المستخدمة مثل الأسلحة القتالية التى كانت تستهدف الشرفاء من رجال القوات المسلحة، إلى أسلحة إعلامية ونفسية خفية تؤثر على عقول الشباب الأبرياء من أبناء الوطن.ومن هنا فإننى أدعو الجميع إلى أن نستلهم من انتصارنا فى حرب أكتوبر بدءًا من معركة الوعى الوطنى وصولًا إلى معركة الانتصار والفخار، وأن نعتبرها نموذجًا نحتذى به لتحقيق الانتصار على من يتربصون بوطننا الغالى فى الداخل والخارج.. معركتنا إذن هى «معركة الوعى» والثقة فى قيادتنا السياسية لتحقيق الأمل المشرق الذى نسعى إلى تحقيقه للأجيال القادمة من بعدنا.
وتحيا مصر..