رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أرمينيا الجميلة المُعذَّبَة «2-2»


كما ذكرت فى المقال السابق، استولت علىَّ الدهشة عندما كبرت وبدأت البحث العلمى فى التاريخ، ولم أجد أرمينيا على الخريطة! أين أرمينيا؟! لقد اختُزِلَت فى مجرد جمهورية من جمهوريات الاتحاد السوفيتى، لا تظهر على خريطة العالم، وإنما تظهر على الخرائط الداخلية الخاصة بالاتحاد السوفيتى.
عند زيارتى متحف الإبادة الجماعية للأرمن فى يريفان، عاصمة أرمينيا بعد استقلالها عن روسيا، كان الجو المهيِّب، والصور البشعة، ودموع المرشدة السياحية الأرمينية الشابة «أنوش» وهى تشرح عمليات الإبادة حتى للأطفال الأرمن، خير دافع لى للمزيد من النظر فى تاريخ أرمينيا.. الجميلة المُعذَّبَة.
الأرمن من أقدم الشعوب فى العالم، لكن الجغرافيا لم تكن دائمًا فى صالحهم، إذ تُعتبر البيئة الجبلية هى الغالبة على بلاد أرمينيا، وأحيانًا تقسو الطبيعة عليهم وتصبح أرمينيا من البلاد الطاردة، ولذلك عرف الأرمن مبكرًا فكرة الهجرة مع الارتباط بثقافة الوطن الأم.
لكن مشكلة البيئة الجبلية لم تكن المشكلة الجغرافية الوحيدة، أو الحاسمة فى تاريخ أرمينيا، إذ إن مشكلة الموقع الجغرافى كانت ذات تأثير كبير فى تاريخ أرمينيا على مر العصور، إذ تقع أرمينيا دائمًا بين قوتين عظميين على مر التاريخ، لتصبح أراضى أرمينيا ووجودها رهنًا بالصراع بين القوى العظمى.
ربما يتضح ذلك جليًا فى التاريخ القديم إذا نظرنا إلى الصراع بين الإمبراطورية الفارسية وبلاد الإغريق، ومدى تأثر أرمينيا بذلك الصراع سلبًا وإيجابًا، وكيف أصبحت أراضى أرمينيا نهبًا لذلك الصراع.
ويستمر الحال فى العصور الوسطى مع بعض المتغيرات، من خلال الصراع بين الفرس والرومان والبيزنطيين، وبعد صعود الدولة الإسلامية يتجدد الصراع من جديد مع تغير مسميات الدول العظمى الحاكمة فى المنطقة.
لكن المتغير الأكبر والأخطر والحاسم فى تاريخ أرمينيا والأرمن حتى الآن كان دخول أرمينيا فى تبعية الدولة العثمانية.. كانت البدايات هادئة حيث لعب الأرمن دورًا مهمًا فى الاقتصاد والمجتمع فى العصر العثمانى، لكن النهايات كانت دموية، حيث وصلنا إلى القرن التاسع عشر، عصر القوميات، والصدام الشهير والدموى بين القوميات اليونانية والأرمينية والعربية فى مواجهة المركزية التركية، ولم يفهم الأتراك أن عصر الإمبراطوريات الكبرى قد ولّى وأننا فى عصر القوميات.
وكانت المأساة الأكبر فى الحقيقة للأرمن، على وجه الخصوص، منذ عصر عبدالحميد الثانى وحتى عام ١٩١٥، الذى شهد أكبر موجات المواجهة الدموية، حيث اتهم الأتراك الأرمن بالاتصال بالقوى الأجنبية، وتبرّأ الأرمن من ذلك.
ويروى الأرمن بألم شديد عن حمامات الدم التى راح ضحيتها الآلاف منهم، فضلًا عن نزوح عشرات الآلاف منهم وتشتتهم حول العالم، بما فيه مصر، واستولى الأتراك على الجزء الأكبر من أراضى أرمينيا، وحتى الآن ينظر الأرمن فى يريفان بحسرة وألم إلى جبل «أرارات» المقدس، الذى يقع على مرمى البصر فى الأراضى التركية، أو الأرمينية سابقًا.
هل آن الأوان للقيام بحركة شجاعة لمراجعة التاريخ والاعتراف بأخطاء الماضى، والاعتذار عن خطيئة الأجداد، حتى لا يبقى الأحفاد فى كهف التاريخ؟ كم حاجتنا الآن فى الشرق الأوسط إلى ذلك الأمر حتى تهدأ هذه المنطقة الملتهبة دائمًا؟!
هل نصل إلى ذلك اليوم الذى نستطيع فيه تجاوز الماضى والعبور إلى المستقبل؟.