رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

منهجان فى التنمية الاقتصادية «1»




الحوار بين المتخصصين والدارسين حول مسالك التنمية المادية والروحية للشعب، والدروب المؤدية إلى الازدهار والتقدّم، لا يتوقف. فهو أمر لصيق بحياة البشر، ويستهدف، بالأساس، تلبية حاجاتهم وتوفير أسباب راحتهم. ونشير فى هذا السياق إلى مدرستين مهمتين، لكل منهما أعمدتها الفكرية، ومُحدداتها الأيديولوجية، وتطبيقاتها العملية، ونتائجها المتحققة على أرض الواقع، سلبًا وإيجابًا: أولاهما مدرسة «الحرية الاقتصادية الكاملة»، أو «الليبرالية الجديدة»، والثانية المدرسة التى تؤمن بفكرة «الاعتماد على الذات»، وتسخير «الموارد الذاتية»، كاستراتيجية بديلة للتنمية.
المدرسة الأولى صارت لها الغلبة فى مناطق عديدة من العالم، ووجدت دَفعة قوية فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى والمعسكر الاشتراكى، فى العقد التاسع من القرن الماضى، حتى تجرأ أحد مُنظريها، «فرانسيس فوكوياما»، فى مؤلفه: «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، فاعتبر أنها وضعت «نهاية التاريخ» لا سبيل لتجاوزها، وكأن فردًا ما، أو عناصر طبقة اجتماعية مُعَـيَّنة، قادرون على إيقاف عجلة الزمن عند لحظة مُحددة، وتجميدها إلى الأبد، وبالضد للقانون الأساسى للوجود الإنسانى، وهو قانون «التغيير»، الذى صاغه الفيلسوف الإغريقى «هيراقليطس»، فى عبارة واحدة، بسيطة وشهيرة: «إنك لن تنزل النهر وحده مرتين».
وقد برز كمفكر رئيس لهذا التوجُّه السياسى - الاقتصادى، البروفيسور «ملتون فريدمان»، عميد «مدرسة شيكاغو» للاقتصاد بالولايات المتحدة الأمريكية، الذى غادر الحياة منذ سنوات قليلة، بعد عمر قارب القرن الكامل، وكان له تأثير طاغٍ على المئات من تلامذته، من مختلف دول العالم، الذين أُطلق عليهم «عيال»، أو «أولاد شيكاغو»، حيث راحوا يروجون، ويدفعون دولهم ومؤسسات بلدانهم إلى الانصياع لأفكار «فريدمان»، الذى لا يرى خلاصًا للبشر كافة إلّا فى التخلِّى الكامل عن أى دور اقتصادى ـ اجتماعى للدولة، وإطلاق العنان لرأس المال، دون أدنى عوائق أو رقابة، كى يصنع ما بدا له فى كل بقاع المعمورة.
وقد تبلورت أفكار وتوجهات وسياسات وتطبيقات «ميلتون وتلامذته»، فى مجموعة من المبادئ المتكاملة، التى يتوجب على الدول اتباعها كـ«حزمة» واحدة، لا تنازل عن جزء فيها، أُطلق عليها سياسات «إجماع واشنطن» (Washington Consensus)، وهى المبادئ التى صاغها «جون ويليامسون»، بروفيسور الاقتصاد الأمريكى، أحد قادة «البنك الدولى»، فى عشر نقاط مترابطة، هى:
■ الانضباط المالى.
■ إعادة توجيه أولويات الإنفاق العام إلى مجالات تُقدّم عوائد اقتصادية عالية «أى تحويل مجالات الخدمة الأساسية، كالرعاية الصحيّة، والتعليم الأساسى، والبنية الأساسية، إلى مرافق تستهدف تحقيق الربح.. إلخ».
■ الإصلاح الضريبى، بمعنى «تقليل فرق الهامش الضريبى» بين المالكين والمواطنين العاديين، لصالح الطرف الأول، مع توسيع القاعدة الضريبية، بحيث لا تستثنى أحدًا مهما كان وضعه الاجتماعى مترديًا.
■ تحرير سعر الفائدة، لتقليل العبء المالى من الاقتراض على الرأسمال، إلى أدنى حد.
■ تحقيق سعر صرف تنافسى «أى تعويم العملة المحلية».
■ تحرير التجارة، دون أدنى قيود أو ضمانات، لصالح الدول القوية اقتصاديًا، وإزالة كل العقبات من أمام حركة الاستثمار الأجنبى فى أى مجال، وبالشروط التى يختارها.
■ تحرير تدفق الاستثمار الأجنبى المُباشر من أى ضوابط أو قيود أو التزام بالقوانين المحليّة.
■ الخصخصة الكاملة لجميع مؤسسات ومرافق الدولة الإنتاجية والخدمية.
■ رفع القيود «الحواجز» على دخول أو خروج السلع.
■ تأمين حقوق الملكية المادية والفكرية.
وقد صارت هذه المبادئ العشرة، التى حظيت بموافقة المؤسسات المالية الرأسمالية الأساسية فى العالم: «وزارة المالية الأمريكية، البنك المركزى الأمريكى، البنك الدولى، صندوق النقد الدولى، الجماعة الأوروبية»، والتى تُقر فرض سياقات السوق الحرّة، دون قيد أو شرط، أو اعتبار للظروف والملابسات الخاصة بكل دولة، وفتح كل الأبواب، دون أى ضوابط، أمام رأس المال المحلى والأجنبى، وتحجيم دور الدولة تحجيمًا كاملًا «إلا كخادم للرأسمال»، بمثابة شبكة عنكبوتية تأخذ بخناق دول العالم الفقير والنامى والطامح للانعتاق من مرارات الفقر والتخلف. فهل هى قدر لا فكاك منه؟ سؤال مهم يبحث عن إجابة.